&
&
لقد قامت مجموعة من طلبة المدارس الثانوية من الشرق الأوسط، بزيارة سياحية وثقافية لليابان، وقد لفت نظري الصدمة التي تعرضوا لها الطلبة ثقافيا في اليوم الأول لزيارتهم. فقد كان من المقرر أن يقوموا بزيارة عدة مناطق سياحية وتعليمية وثقافية في اليابان، كما ضم برنامجهم زيارة للمعابد اليابانية، وقد بدى عليهم لحظة من الذهول، حينما عرفوا بأن عليهم زيارة هذه المعابد، بل رفض بعضهم تلك الزيارة. ولم تمر ثلاثة أيام وإذا بهولاء الطلبة شخصيات مختلفة تماما، متفتحة ومتنورة، بل أصروا التعرف على ثقافة وروحانيات هذه البلد التي يزورنه ولأول مرة، بل ويبدو بأنهم إمبهروا مما لمسوه من النظافة والنظام والإنضباط وأحترام الوقت، والتطور التكنولوجي، وأخلاقيات السلوك، من الصدق والأمانة وطهارة الجسم والعقل والروح والسلوك.&
&
وقد دفعني هؤلاء الطلبة للتفكير في الأسئلة التالية: ما الذي خلق التردد الأولي بالتحفظ على زيارة المعابد اليابانية؟ هل هناك جهل في الشرق الأوسط عن الروحانيات الأسيوية؟ أم هناك ثقافة رفض الإختلاف في بيئتنا المجتمعية؟ وما هو أساس هذا الرفض؟ هل سببه ديني، أم الجهل؟ وما هي هذه الروحانيات التي نتحدث عنها؟ وأين الخلاف بين جميع هذه الأديان؟ أليست جميع الأديان، بمختلف مكان وتاريخ ظهورها، تؤمن بخالق الكون جلت عظمته؟ أليست مسئولية جميع الأديان سمو أخلاقيات وسلوك الإنسان؟ وألسيت لجميع الأديان ثقافات وعبادات متنوعة، تعبر عن تباين إختلاف المجتمعات البشرية، ولكن تجتمع جميعها على عبادة خالق الكون جلت عظمته؟ أليس وظيفة الأديان جميعها الجواب على الأسئلة المحيرة: من أين أتينا لهذه الحياة، وكيف يجب أن نعيشها، وإلى أين نحن ذاهبون؟ وهل هناك بلد في العالم تنصهر فيها جميع الأديان في بوتقة سياسية ديمقراطية جميلة؟ وفي زمن تمزق مجتمعاتنا في الشرق الأوسط، بأفكار تحسب على الدين، والتي أدت لتطرف القتل بالدبح والحرق، بل وخلق أثنى عشر مليون لاجئ، ألسنا في حاجة لدراسة هذا البلد، والإستفادة من تجربة التناغم الروحي والسلوك الأخلاقي، الذي جمع شعبها في بوتقة تجمع بين أطياف أديان إنسانية متعددة؟&
&
لقد راجعت الوكيبيديا للوصول إلى ضالتي في إكتشاف الإجابة على هذه الأسئلة، وقد وجدت بأن هناك الكثير من الأديان، والفلسفات &في الهند، ولكن جميعها، وجميع الشعوب المؤمنة بها، محمية بالدستور والقوانين والأنظمة الهندية، كما أن هناك بوتقة جميلة من زعماء الهند على مدى التاريخ المعاصر حافظوا على سلامة هذه التعددية، بدءا من الزعيم الروحي العظيم مهاتما غاندي، وحتى الزعيم السياسي العظيم جواهر لال نهرو. فالهند هي شبه القارة التي تجمع الكثير من الثقافات والأديان، بل والتناقضات، وبشكل تناغمي جميل، فالهندوسية يحتضنها 80% من الشعب الهندي، بينما يحتضن الإسلام 14%، والسيخية 2%، والبوذية 0.7% والجينزمية 0.4%، والمسيحية 2.3%، &كما تشمل أديان الهند أيضا اليهودية والزورادشتية، وبعض الأديان والفلسفات القديمة الأخرى. ويبدو بأن جميع هذه الأديان تؤمن بشكل او بآخر بالخالق جلت عظمته، وملائكته، ورسله، كما تؤكد على أهمية السلوك البشري الإنساني. فقد ارسل الخالق جلت عظمته رسله وأنبياءه، في كل زمان ومكان، لكي ينشروا مكارم الأخلاق بين البشر، ويتعجب الإنسان كيف يحول بعض متطرفي البشر هذه الرسالة السامية إلى سبب للإختلاف والخلاف، بل وللصراعات والحروب والقتل والدبح والسبي.&
&
كما أن الدستور الهندي ليس به دين حكومي، بل الهند دولة علمانية، وهي البلاد التي تمارس فيها جميع أديان العالم بحرية وأحترام، وبقوة تنفيذ الدستور والقانون. ومع كل ذلك التنوع الديني، لم تخلو الهند من المتطرفين الذين شعلوا نيران الشقاق والتنافر، وذلك بسبب المبالغة في الإنتماء الطائفي المتطرف للبعض. وكما ناقشنا في الماضي بأن دراسة إحصائيات السلوك البشري توزع البشر في منحنى بياني على شكل جرس مقلوب، فحوالي 95% من البشر معتدلي في إنتماءاتهم الدينية، بينما 2.5 % من البشر حكماء في إنتمائهم الديني، و 2.5% الباقي هم متطرفين في إنتماءهم الديني. ولو درسنا ال 2.5% من هولاء المتطرفين، لوجدنا بينهم 95% معتدلي التطرف بينما 2.5% قليلي التطرف و 2.5 % في مستوى التطرف اللاعقلاني الشديد، وهذه هي المجموعة التي هي مستعدة للدبح والحرق والقتل والسبي، لإعتقادها بأن ما تؤمن به هو الصحيح بينما باقي العالم كله على خطأ، بل ليس عليها أن تتناغم في إختلافها مع أفكار باقي العالم، بل على العالم أن يحترم وينصاع لتطرفها وإلى لاعقلانيتها، وإلا ستستعمل جميع وسائل التطرف والعنف والحقد والإنتقام لكي تحاول تحقيق ما تصبو إليه، فهم ينسون الوحدة الوطنية، ويعبرون عن ولائهم ليس للوطن، بل يصغرونه في معتقداتهم الطائفية الضيقة والمتطرفة. وقد كان ذلك واضحا في الخلافات التي أدت لتقسيم الشبه القارة الهندية أولا إلى الهند والباكستان، وبعدها إلى بنجلاديش، وما زال هناك أحساس بالإختلاف حول الشعور الطائفي بين الجماعات الدينية المختلفة.&
&
ولنتذكر عزيزي القارئ بأن جميع أديان الهند تجمع تحت مظلتها مئات من الطوائف، وتصور عزيزي القارئ إن لم يكن هناك دستور وقوانين وأنظمة تفرض التناغم بل وتنفذه، لتفتت الهند إلى عدة بلدان صغيرة متنازعة ومتحاربة، وبسبب الطائفية البغيضة. وهنا يستغرب الإنسان بأن في دول الشرق ألأوسط هناك دول صغيرة جدا، وجميهم مسلمون، ومع ذلك هناك صراعات طائفية محزنة، ليس فقط بين الطوائف الإسلامية، بل أيضا ضمن المذاهب الإسلامية المتعددة، بل وضمن هؤلاء هناك خلافات وحزازات شخصية وعقائدية مقيته. وهنا يتبين لنا بأن التطرف ليس له حدود، ولو لم يكن هناك دستور وقانون وحكومة تضبط الأمور، لتحولت هذه الدول لخرائب محزنة، كالتي نشاهدها اليوم في ليبيا وسوريا والعراق. &
&
والجدير بالذكر بأنه منذ أن وجد الإنسان في هذا الكون الشاسع، بدأ يكتشف ضعفه في التعامل مع جميع التحديات المحيطة به، بل بدأ يخاف من الزلازل والطوفانات والجفاف وحرارة الشمس. كما تسائل عن أسباب نزول المطر، والسر وراء هذه المياه التي تمليء الأنهار، وتسقي الأشجار والنباتات، وتروي الكائنات الحية بمختلف أنواعها، ليبدأ العقل البشري في التفكير في إله للكون، وبناء تاريخ من الأساطير حوله، ولتتطور هذه الأساطير لفلسفات مختلفة للحياة، ولتظهر عقائد مختلفة لدستور إستمرارية الحياة، ولتبرز بعدها الأديان السماوية. بل بدأت العقول البشرية تتسائل وما سنواجهه بعد هذه الحياة، فهل سنختفي، أم سنخلق من جديد، لكي نحاسب على ما قرفته إيدينا من خير أو شر. وتبين الدراسات الأركيولوجية بأن أول تاريخ بشري مسجل لذكر الآله هو في بلاد النهرين في ما عام 6000 قبل الميلاد، كما أن من أوائل "طرق الحياة" التي نعرفها اليوم، والتي سميت بطريق الآلهة، هي الهندوسية، والزرادشتية، والشنتو اليابانية. كما برزت عقائد جمعت بين الفلسفة والدين، كالطاوية والكنفوشيسية في الصين، وفي مرحلة متقدمة من التاريخ البشري برزت الرسالات السماوية المرتبطة بالإبراهيمية، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام. والجدير بالذكر بأنه مع أن هناك إختلاط في مفهوم الآلهة، ولكن مع المراجعة الدقيقة يتبين بأن جميع الفلسفات، وطرق الآلهة، والأديان السماوية، تجتمع بأن هناك خالق ومسير وحيد لهذا الكون، ولكن هناك تجسيم لخلقه، جل شأنه، في بعض الأديان، من خلال طاقة طبيعية، سمي بآلهة أصغر، مثلا كالملائكة، أو من خلال أشخاص مقدسيين، او من خلال ظواهر طبيعية كالكائنات الحية، أو مظاهر الطبيعية، كالجبال وألأنهار والشمس.&
&
وتجمع الهندوسية مجموعة من العقائد والتقاليد، التي تشكلت عبر مسيرة طويلة منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد وإلى وقتنا الحاضر. كما يعود أول دليل على وجود دين في الهند لفترة ما قبل التاريخ، أي إلى أواخر العصر الحجري الحديث بين عام 5500 حتى 2600 قبل الميلاد. ولا يوجد للهندوسية مؤسس معين، وإنما تشكلت مبادئها عبر امتداد طويل من القرون. وتضم الهندوسية القيم الروحية والخلقية، إلى جانب المبادئ القانونية والتنظيمية، متخذة عدة آلهة بحسب الأعمال المتعلقة بها، فلكل منطقة إله، ولكل عمل أو ظاهرة إله، وتجمع النظرة الهندوسية إلى الآلهة بين التوحيد، ولا يوجد توحيد بالمعنى الدقيق، لكنهم إذا أقبلوا على إله من الآلهة أقبلوا عليه بكل جوارحهم حتى تختفي عن أعينهم كل الآلهة الأخرى، وعندها يخاطبونه برب الأرباب، أو إله الآلهة .ويمكن أن يفهم مفهوم العديد من الآله هنا بمفهوم الملائكة في الأديان السماوية، بينما إله الآله، هو خالق الكون، جلت عظمته. وأحد التصنيفات المنهيجية للنصوص الهندوسية هي نصوص الإلهام والمحفوظ، والتي تناقش اللاهوت والفلسفة والأساطير وطقوس وبناء المعابد. ونقلا بالنص عن المحكمة العليا بالهند "الديانة الهندوسية لا تتبع نبيا بعينه، ولا تعبد إله معين، ولا تنساق نحو مفهوم فلسفي محدد، ولا تتبع نمطاً موحداً للشعائر الدينية، بل هي في الواقع لا تمثل المظاهر المتعارف عليها للأديان، بل أنها فقط أسلوب للحياة."&
&
أما الزرادشتية، فقد كانت ديانة الفرس قبل الإسلام، وهي من أقدم أديان العالم التوحيدية، وقد تبلورت أفكارها في الإلفية السادسة قبل الميلاد، وانتشرت في بلاد فارس قبل 3500 سنة، بعد أن قام الفليسوف زرادشت بتبسيط مجمع الآلهة الفارسي القديم إلى مثنوية كونية: العقلية التقدمية وقوى الظلام أو الشر، وتحت إله واحد، إله الحكمة المضيئة. وهناك إعتقاد خاطئ بأنهم يعبدون النار، ولكن في الحقيقة يعتبرون النار والماء أدوات من طقوس الطهارة الروحية، وأشهر أعيادها هو عيد النوروز. كما يؤمنون بيوم الحساب، وبأن الإنسان الصالح يخلد إلى الجنة، بينما الفاسق سيخلد في النار مع الشياطين. وتتمحور الزرادشتية حول إله واحد أحد، مطلق، عالمي، مجرد، وترجع أمور جميع المخلوقات إليه، فهو خالق، وغير مخلوق. كما تؤمن بأن النفس الإنسانية تنقسم إلى قسمين، القوة المقدسة، "الملائكة"، والتي تدعمها سبعة فضائل عليا، وهي الكرم والأمانة والإخلاص والعمل والعفة والشجاعة والحكمة، والتي تدفع النفس البشرية إلى الخير والنور والحياة والحق، وقوى الشياطين، والتي تدفع لقوة خبيثة كإزهاق الروح والظلم والبخل والجبن والخيانة والخديعة والنفاق. كما تساند هذه القوة رذائل النقص في النفس البشرية وهي الشر والظلام والموت والخداع، ويبقى الصراع قائما بين هاتين القوتين داخل النفس، إلى أن يصل الإنسان إلى النقاء. كما تؤمن بالعقاب واليوم الآخر وبالروح، &وبأن الفاني هو الجسد وليس الروح، كما أن إعتقادهم راسخ بالجنة والنار والصراط المستقيم وميزان الأعمال.&
&
وقد وصل الإسلام للهند في الربع الأخير من القرن الثاني عشر مع الغزو الإسلامي لشبه القارة الهندية. فقد رعى الحكام المسلمون الإسلام في الهند، وأسسوا سلالات حاكمة على أجزاء واسعة من البلاد، وشجعوا التحول من الهندوسية والبوذية، وبذلك إزداد عدد المسلمين تدريجيا في الهند. وكان القبول بالإسلام من قبل الطبقات الدنيا وسيلة مهمة للهروب من طبقة الفئة الفقيرة المنبوذة في التقاليد الهندوسية، وإلى مفاهيم المساواة مع الطبقة المسيطرة والحاكمة. كما وصلت المسيحية للهند من خلال الجهود التبشرية للسينت توماس الذي وصل للهند في عام 52، بينما وصل البرتغاليين للهند في القرن السادس عشر، وبنوا أول كنيسة فيها. &وقد أسس السيخية، جورو ناناك، في القرن السادس عشر، بعد الثورة الدينية لحركة بهاكتي، التي كانت موجهه ضد التعصب الطائفي التي كانت تمارس عند بعض الهندوس، وهي تؤكد بأن خالق الكون ليس له شكل، ولا زمن، وهو خالد وعادل. كما أنهم يؤمنون بإله واحد. كما بدأت البوذية في الهند في القرن السادس قبل الميلاد، وأنتشرت في الكثير من الدول الآسيوية، والتي تتعلق بالتطور الروحي للسمو للتنوير وهي أعلى درجة للسمو البشري للحقيقة الإنسانية.&
&
وهناك معتقدات وأديان مرتبطة بباقي قارة أسيا، مثلا الشنتو في اليابان، والطاوية في الصين. فالطاوية هي تقليد فلسفي وأخلاقي أو ديني يؤكد على العيش في وئام مع مبادئ إنسانية محددة، بينما الكنفوشيسية هي نظام للتعاليم الأخلاقية والسياسية والفلسفية التي أسسها فيلسوف الصين العظيم كونفوشيوس، في القرن السادس قبل الميلاد، ويصنفها البعض كدين أيضا. كما أن هناك أديان قديمة في الشرق الأوسط، كالدرزية، ويعتبر يثرو مديان جد كل الدروز، وهو الأب الغير يهودي لزوجة النبي موسى، وهي دين التوحيد والإبراهيمية، ومع الاستناد إلى تعاليم أفلاطون وأرسطو وسقراط واخناتون وحمزة وآل الحكيم. كما أن رسائل الحكمة هو النص التأسيسي لعقيدة الدروز، جنبا إلى جنب مع نصوص تكميلية مثل رسائل من الهند، كما تضم عناصر الغنوصية والأفلاطونية الحديثة والفيثاغورية والإسماعيلية واليهودية والمسيحية والهندوسية، وتركز على دور العقل وسمو الأخلاق، كما تعتقد بوحدة النفس مع العقل الكوني. ولنا لقاء.
&
د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان
&
التعليقات