تلبية لرغبة العديد من الأصدقاء، اعاود كتابة ذكرياتي بعد انقطاع دام أكثر من ثلاث سنوات – لا اعلم كيف مرت هذه السنين بسرعة. في الحلقة السابقة لذكرياتي والتي كان عنوانها "الكل بانتظار أن يشنقوا" تحدثت عن حملة الإعدامات والقتل التي طالت يهود العراق في نهاية الستينيات-أوائل السبعينيات من القرن الماضي. كنت قد قفزت عدة سنين في التسلسل الزمني لهذه الذكريات. سأعود في هذه الحلقة إلى العهد القاسمي 1958-1963 والى نهايته.
****
بدأت السنة الدراسية 1962-1963 كأي سنة والزعيم عبد الكريم قاسم يحكم العراق. كنت في الصف الثاني المتوسط – القسم الفرنسي. هذا الصف كان من اصعب الصفوف حيث كنا ندرس اثني عشر موضوعا من ضمنها 3 لغات - العربية، الإنكليزية والفرنسية. درسنا المواضيع العلمية بثلاث لغات أيضا (الفيزياء، الهندسة والجبر باللغة الفرنسية، الرياضيات باللغة الإنكليزية، الكيمياء والأحياء باللغة العربية)، هذا بالإضافة إلى التاريخ الإسلامي والجغرافية والمدنية.
الجمعة 8 شباط 1963 بدأ ككل جمعة في مدرسة فرنك عيني في العلوية (تدعى الآن المدرسة النظامية)، يوم قصير مقارنة بأيام الأسبوع الأخرى. عطلتنا الأسبوعية كانت يوم السبت لكون المدرسة تابعة للطائفة اليهودية. بعد اقل من ساعة من بداية اليوم الدراسي بدأ العديد من الأهالي لإخراج أولادهم من المدرسة على أثر مسموعات عن محاولة انقلاب ضد عبد الكريم قاسم. كانت والدتي تعمل في المدرسة في الإدارة. بعد وقت قليل أعلنت إدارة المدرسة عن إنهاء اليوم الدراسي مبكرا وبدأت سيارات المدرسة بإرجاع الطلاب إلى بيوتهم. بعد التأكد أن كل الطلاب قد تركوا المدرسة، أخذتنا والدتنا أنا وأخواتي كهرمان ونيران إلى البيت. كان نعيش قرب المدرسة في مشتمل فيما يسمى بشارع الميثاق (أحد الشوارع التي كانت تربط شارع النضال وشارع 52). من حسن الحظ أن والدي كان في البيت (عطلة الأسبوع) وليس في عمله كسكرتير التحرير في الجريدة المحسوبة على عبد الكريم قاسم.
اذكر ان والدي استخف بما اسماها محاولة الانقلاب ضد عبد الكريم قاسم وقال انها ستفشل لا محالة لان الجيش والشعب سيدافع عنه! كان والدي يعتقد ان المتآمرين اخذوا في حساباتهم ان في السنتين الاخيرتين خسر قاسم التيارات اليسارية والاكراد ولكنه لم يعتقد ان قاسم قد خسر شعبيته. لن
اتطرق في الذكريات عن الانقلاب لان هناك المئات من المقالات نشرت في هذا الموضوع من قبل مختلف كتاب التيارات السياسية ومن قبل باحثين.
في اليوم الثاني للانقلاب (9 شباط) وبعد استسلام عبد الكريم قاسم ورفقائه في وزارة الدفاع تم نقلهم إلى مقر الإذاعة وتمت محاكمة صورية وإصدار حكم الإعدام وإطلاق الرصاص عليهم. بعد ذلك عرض التلفزيون العراقي فيلم فيه أحد الجنود يهز رأس الزعيم المقتول. بدأت والدتي بالبكاء ولكنها لم تصدق عيناها مثل الكثير من ابناء الشعب الذين رفضوا قبول ما شاهدوه. اذكر لأشهر بعد ذلك كان بسطاء الناس يدعون انهم شاهدوا الزعيم في هذه المنطقة او تلك.
قررت والدتي أنه ليس من الأمان على والدي أن نبقى في منزلنا حيث هناك احتمال كبير ان نجح الانقلاب أن يأتوا إلى البيت لاعتقال والدي وحتى ربما قتله. فذهبنا إلى بيت خالي في عرصات الهندية-المسبح ليكون والدي بعيدا عن الانظار بعض الوقت. لا زلت أذكر ان بعد اعلان منع التجول كان قرب بيت خالي عائلة أوربية بدأت ربة البيت تشتكي أن منع التجول لن يعطيها المجال أن تذهب لشراء اكل لكلبها! فكرت المئات من الشعب يقتلون وهي قلقة على اكل الكلب. لكني لم ادرك ان الكلب اكثر وفاءا من الانسان!
خلال الأسابيع الأولي بدا حمام الدم للقوى الديمقراطية واليسارية وعلى الأخص الشيوعيون منهم. كان الكثير منهم من أصدقاء والدي. اذكر كيف ان والدي صدم حين سمع ان عبد الرحيم شريف (اخ عزيز شريف) كان قد قتل بإذابته في حامض التيزاب وان العديد قتلوا برميهم من السطوح او من التعذيب الذي لاقوه في السجون وكيف ان العديد من النساء قد اغتصبوا علي يد افراد الحرس القومي – ميليشيا البعث. تولى رئاسة الجمهورية عبد السلام عارف وكان من القوميين الناصريين.
بعد عدة أيام في بيت خالي قررنا العودة الى بيتنا لأن لا جدوى من البقاء هناك. إذا أرادوا القاء القبض على الوالد فسيتم ذلك في أي حال، لكن سلم والدي – ربما لأنه لم يخلق عداوة حتى ولو انه كان محسوب على التيار اليساري. بقى والدي اشهر في البيت بدون عمل لأنه لم يرغب في التعاون مع النظام بالرغم ان بعض الأصدقاء من المحسوبين على البعث جاءوا الينا الى البيت وطلبوا من الوالد ان يعود لممارسة الصحافة (قائلين له ان يديك نظيفتان! وليس عليك ان تخاف من الرجوع). امتنع الوالد قائلا لهم:" لقد قررت اعتزال الصحافة، أنتم تعرفون أرائي ولا يستطيع ضميري ان اتعاون مع الفئة الحاكمة. وقد نسق جوابه مع زملائه في الصحافة اليهود – نعيم طويق، مراد العماري.
*****
اعود الى المدرسة كان التاريخ الإسلامي من أصعب الدروس نفسيا ونحن نقرأ كيف يهود قريظة وقنيقاع وخيبر خانوا الوعود وكيف حاربهم النبي محمد وأجلاهم. قرأنا عن الغزوة التي شنها النبي محمد في السنة الخامسة للهجرة على يهود بني قريظة في المدينة لنقضهم العهود حسب الرواية الإسلامية وتآمرهم مع قريش والأحزاب أعداء النبي في معركة الخندق. حسب الرواية انتهت
الغزوة باستسلام بني قريظة وطلبهم أن يحكم فيهم سعد بن معاذ فحكم الأخير بقتل الرجال والأولاد وسبي النساء وتقسيم أموالهم وأراضيهم على المسلمين.
من منا يستطيع أن يناقش الأستاذ يحي نزهت وكان قوميا "متدينا" أن ما حدث في المدينة ما هي الا رغبة النبي محمد في السيطرة على الطرق التجارية وعلى ممتلكات اليهود. من يستطيع ان يعترض لماذا قتل الاولاد وسبيت النساء. كتاب التاريخ الاسلامي كان ينضح بالكراهية ضد اليهود وكان علينا ان نلتزم الصمت ونعض شفاهنا لكيلا نثير غضب هذا المدرس الذي "استكلب وأصبح أكثر شراسة" والآن جماعته في الحكم.
*****
بعد ما تمتع يهود العراق بشعور المساواة في عهد قاسم (ما عدا شائبة هدم ونقل المقبرة اليهودية في صيف 1961)، تعرضنا مجددا للتفرقة فبعد حوالي ستة أسابيع فقط من الانقلاب (في 21 آذار 1963) صدر قانون (14) يقضي بإلغاء القانون الذي سن في عهد حكومة قاسم والذي الغى المادة الخامسة التعسفية المتعلقة بإسقاط الجنسية العراقية عن أي يهودي يتأخر بالعودة الى العراق. ثم تبعه قانون 54 في 19 حزيران الذي يعطي مدة ستة أشهر لكل يهودي غادر العراق بين 20 كانون الثاني 1960 و 30 آذار 1963 بان يعود او تسقط الجنسية عنه و اسقط هذا القانون الجنسية العراقية لكل يهودي اكتسب جنسية
وفي خلال أشهر من صدور هذا القانون لم يسمح لليهود بالسفر وفي 1964 صدرت الهوية الصفراء وسأتطرق الى ذلك في الحلقة القادمة.
*لمن يرغب بالاطلاع على هذه القوانين فيستطيع مراجعة هذه المصادر:
* قانون 54 لسنة 1963 - تعديل قانون ذيل قانون مراقبة وإدارة أموال اليهود المسقطة عنهم الجنسية العراقية لسنة 1951 – شرع في 1963/6/21 – الوقائع العراقية 821 - 1963/6/25
* قانون 14 لسنة 1963 - الغاء القانون رقم 11 لسنة 1960 – شرع في 1963/3/21 - الوقائع العراقية 787 - 1963/3/27
* قانون 11 لسنة 1960 تعديل قانون رقم 12 لسنة 1951 - شرع في 1960/1/13 - الوقائع العراقية 293 - 1961/1/20
* قانون رقم 12 ذيل قانون مراقبة وإدارة أموال اليهود المسقطة عنهم الجنسية العراقية رقم 5 لسنة 1951 - شرع في 1951/3/22 - الوقائع العراقية 2949 – 1951/3/22
* قانون رقم 1 – ذيل مرسوم اسقاط الجنسية العراقية رقم 62 لسنة 1933 - شرع في 1950/3/9 - الوقائع العراقية 2816 - 1950/3/9
التعليقات