تخبرنا الأسطورة الإغريقية بإن النحات بجماليون أغرم بتمثال المرأة الذي أمضى وقتا طويلا في نحته , وتوسل للآلهة أن تبث فيه الحياة , فاستجابت الآلهة لتوسلاته.
وهي الأسطورة التي ألهمت كل من الأديب الإنجليزي برنارد شو في مسرحية سيدتي الجميلة (ماي فير ليدي), والأديب المصري توفيق الحكيم الذي أبقى على اسم الأسطورة الأصلي(بيجماليون) , وإن كان العملان يدوران حول فكرة الفن كأداة تنازل التحجر والبدائية وتفكك الجمود .
الفنون والآداب كانت حاضرة منذ مطالع التاريخ تمتلك وظيفة طقوسية وبعدا شعائريا في حياة البشر, ولكنها مع تطور الإنسان وتعقد حياته وارتفاع آليات التفكير لديه أصبح موقفه من الآداب والفنون أكثر عمقا وتعقيدا , وتحولت علاقتهما إلى تجربة ترافقها متعة عقليه وموقف جمالي.
بحيث تجاوزت الفنون والآداب المرحلة النفعية المحضة , وأصبحت لها قيمة جمالية مستقلة بذاتها , هذه القيمة تعكس قيم الحضارة المنتجة وفلسفتها اتجاه الكون, فإذا ما استقرت المجتمعات وتم إشباع حاجاتها الأولية وأمنت من جوع وخوف , انطلقت في ملكوت الجمال والإبداع الفني , تلبي الحاجة الفطرية ونداء الأشواق الدائمة باتجاه أرض الفن.
وبما إن الإنسانية عند الفيلسوف كانط هي فكرة متصعدة ومتغيرة باستمرار توقا للوصول للكمال , يصبح دور الفنون صقل الحس , والرقى بالذوق , وتهذيب التوحش في الطباع.
الفنون والآداب ليس ترفا , وليس هدرا للوقت أو استنزافا للطاقات , كما تحاول بعض المجتمعات المنغلقة المتخلفة أن تصورها , بل وتحاكمها أيدلوجيا.
لكنها حق إنساني يضمنه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان , حيث تنص المادة 27 (على حق الفرد في المشاركة الحرة في المجتمع الثقافي والاستمتاع بالفنون) .
وكم يبدو محبطا بأن نقف اليوم وبعد رحلة سحيقة لقافلة الفنون منذ فجر التاريخ , على الضفاف القصية للفنون نحاول أن نجسر النهر نحوها, و أن نستنبت بذار الجمال والإبداع في أرض مجدبة منهما عن سبق إصرار وتربص.
والعالم العربي الذي يعاني مأزقا تاريخيا مع العنف والتوحش والإقصاء والعنصرية , ستكون الفنون والآداب الراقية , ذات المحتوى المحتشد بالقيم السامية , هي ترياقا لمجاميع هائلة من الناشئة التي تكابد الإحباط وتفتقد المعنى والجدوى.
بل هي قد تكون مركب نجاة أمام أمواج النيوليبرالية , أو تحديدا (الرأسمالية في شقها المتوحش ) وطوفانها الذي يقوم على الاستغلال والاستحواذ وقوانين السوق المنفلتة, التي تبقي الذائقة في دركها الغرائزي الاستهلاكي وتمنعها من التحليق والسمو في ملكوت الفن والجمال.
ومن هنا نجد إن الفنون والآداب تمثل ترياقا للمرحلة , لتندرج الشعوب في درب الحرير المتوغل في صناعة الحضارة , تعلي من قيم الإنسانية , وتنفتح على حضارات العالم , توسع الأرضية الإنسانية المشتركة وتحرر الإنسان من ظلامية التطرف وقيم السوق الجشعة .
التعليقات