مسالك الحبّ ليست دائما مفروشة بالعشب ومحاطة بالظلال وهدأة المشاوير وتقافز الوشوشات والتغزل بين الألسن والاسماع، تتناقلها العيون والآذان وتلوّح بإيحاءاتها الى الاحاسيس كي تنتشي فرحا وسعادة،هناك مسالك اخرى مفزعة وتثير الرعب بحيث تجعلك ترتجف خوفا وتثير الهلع والفزع والخوف المفرط وكأنك تمشي في غابة غير محروسة ولا تعرف متى تكون أضحية منذورة لعذاباته وبلواه، وقد تكون اكثر دموية وفزعا من مسالك الكراهية التي اعتدنا ان نعيشها سنوات مابعد الاحتلال الاميركي لبلادي، وقتذاك كنا نخاف المرور في الحيّ القريب منا وفي شوارع كنا نسميها شوارع الموت ودروب اللاعودة وما نقوله في لهجتنا العاميّة بأنها " درب الصدّ ما ردّ ".
ومادمنا نعيش أهوال وتراجيديا الدم الآن وصنوف القتل والتدمير النفسي، فليكن حديثنا عن الموات بدافع العشق المفرط وغرائب المحبّ وطيشه وهلعهِ وأصناف الجريمة التي يرتكبها العاشق مما لا تخطر على البال بسبب ظواهرها التي قد لا تصدق، وهذه فسحة عاجلة نجول فيها عمّا قرأناه من كتب التراث العربي عن دموية الحب وجنونه وغرائبيته وصلف العاشق وقسوته اللامتناهية التي قد تفوق ما يعمله الارهابيّ من صنيع بشع بحق عدوّه الان ؛ مع الفرق ان الحبيب المهووس الى حدّ التقديس للحبيبة يصرّ على فناء حبيبته بأبشع طريقة من طرائق الموت وهنا يتساوى الكره الاعمى والحبّ الاعمى معاً وكأنهما عملة واحدة وشفرَتي مقصٍّ تعملان سويةً على تمزيق وخرق فستان المحبة.
كثيرةٌ هي الروايات التي وردتنا من التراث الادبي العربي عمّا يسببه الحب من جنون يصل احيانا الى الجرم والإصرار على ارتكابهِ دون اية حالة ندم حينما يصل الى ذروته وقد يؤدي الى الهلاك ليس على الحبيب وحده بل ينسحب هذا الهلاك على الحبيبة المسكينة عند اشتداد الغيرة وتمنِّي الاستحواذ على مَن نحب مادمنا على قيد الحياة ولا نكتفي بهذا بل نريد ان يرافقنا المحبّ الى العالم الاخر.
فما يقال عن الحب وجنونه وإجرامه الهائل ليس ضرباً من الوهم والخيال والميتافيزيقيا ؛ وكم من الحقائق العجيبة التي لاتكاد تصدق أصابت العاشقين اذ تحفل قصص التراث بالغزير من الحكايات المؤلمة ودعوني أذكر بعضا منها نزرا يسيراً من بطون كتبٍ حفلتْ من قصص الحبّ كثيرا.
روى أبو حيّان التّوحيديّ في كتابه « البصائر والذّخائر »، قال: إنّ شخصاً اسمُه " عبد العزيز بن دُلف " دعا بجاريةٍ له كان يرى الدنيا وجمالها وروعتها بعينيها، يهيم بها حبّا الى حدّ الهوس والخبل، لو فارقها هنيهة واحدة، وفي لحظة جنون عجيب اختلط معه الهيام والتعلّق ؛ قام بضرب عنقها وقتلَها إصراراً عامداً. فقيل له: لمَ فعلتَ ذلك؟ فقال: مَخافةَ أن أموتَ في حبّها، فتبقى هي بعدي تحت غيري.
ويعلِّق التّوحيديّ، قائلاً: هذا نمَطٌ من الجنون قلما يصل اليه عاشق في أمم وشعوب الارض كلها.
اما ديك الجن الحمصي فقصته المعروفة المتداولة تتناقلها ألسن الناس يحار فيها العقل والجنون معا، هذا الشاعر أحبّ جارية اسمها " ورد " من نصارى حمص وجمالها يخرق كل التقوى والمهابة والاتزان لدى الرجال ولو كانوا عُبّاداً ضالعين في الزهد والتصوّف والورع حتى قيل انها سمّيت " وردا " لان جسدها يفوح برائحة أنثوية ولا أشهى منها شميما عذبا، وكان حبّه طاغيا عليه كليّاً ومن شدة غِيرته عليها قتلها شرّ قتلة بحيث قام بحزّ عنقها بالسيف مثلما يفعل الداعشيون اليوم، ومع ان قتلها كان بوشاية كما يدّعي المؤرخون لكني استبعد هذه الحال ؛ ففي الحب صنفٌ عجيب وغريب ومهلك يجعلك تفقد عقلك تماما وهذا هو سبب شيوع حالات الانتحار وقتل النفس عن عمد نتيجة فشل في الحب او فقدان الحبيب او الحبيبة في ظرف ما وتكاد تكون هذه الظاهرة في قتل النفس عند كل شعوب العالم التي تضيق الخناق على الحب.
يقول ديك الجن في معشوقته " ورد بنت الناعمة " وهو يراها نازفة ميتة أمامه ودموعهُ تهطل مدراراً:
يا طلعة طلـع الحِـمـام عليهـا ---- وجنى لها ثمر الـردى بيديْــهـا
روّيتُ من دمها الثرى ولطالمـا -- روّى الهوى شفتيّ من شفتيها
قد حزّ سيفي في مجال خناقها --- ومدامعي تجري علـى خدّيهـا
فـوحقّ نعليها وما وطأ الثرى ---- شيءٌ أعـزّ علـيّ مـن نعْـليهـا
ما كان قتْـليهــا جناية عاشــقٍ ---- لكنْ أغار من النسيم عليــهـا
أبداً ضننتُ على العيون بحسنها -- وأنِفتُ من نظر الحسود إليها
وكثيرا ما كان مثل هذا الحب العجيب يتجاوز الخبل وشرود الذهن بأشواط فقد قرأت مرةً ان " قيسا بن الملوّح " رأى كلبَ محبوبته ليلى سارحاً أمامه فأسرع وراءه يتبعه لعله يدلّه على مكان تواجد مَن جنّنتهُ حبّاً، اذ كثيرا ماكانت النسوة والأقوام المتنقلة تصحب كلبها معها على عادة بعض الاوربيين اليوم، ومرّ بالصدفة وهو يتبع الكلب على جماعة من المسلمين يصلّون صلاة الجماعة في العراء دون ان يراهم بسبب انشغال عقله وحواسه بحبيبته وعاد من نفس الطريق دون ان يظفر بليلاه فناداه احد المصلين اثناء عودته خائباً وعاتبهُ لماذا لم ينضمّ اليهم للصلاة؟ !
أجاب ابن الملوّح صادقا: والله ما رأيتكم أمام ناظريّ.
لكن المصلّين لم يصدقوه فأنكروا كلامه وعابوا تبريره فكيف لم يرهم وهم حشد كبير !.
وردّ عليهم غاضباً: لو كنتم تحبون الله كما أحب ليلى لما رأيتموني عابراً، وانتم كنتم بين يدي الله ورأيتموني، وأنا كنت بين يدي كلب ليلى ولم أركم فكيف بي اذا تجسّدت ليلى أمامي !!
هكذا هو الحبّ الحقيقي حين يُعمي البصر ويغلق البصيرة وقد يُحدث إجراما ويعبث بالعقل أيّما عبث فأين نحن مما قرأنا وسمعنا من لواعجه وبلواه الآن.
- آخر تحديث :
التعليقات