كلمة الحب في المجتمعات العربية تلفت النظر للحب العذري، وأشعار قيس وليلى، وقصة عنتر وعبلة. أما كلمة الحب في اليابان فتعكس تناغم الإنسان الياباني مع ما حوله من طبيعة جميلة خلابة، التي وهبتها الآلهة للشعب الياباني. والجدير بالذكر هنا بأن الشعب الياباني يعتبر الآلهة رموز أسطورية،وهي في الحقيقة تتمثل بالملائكة في الثقافة الشرق أوسطية، ولا تعني المفهوم الشرق الأوسط لخالق الكون، جلت عظمته، الواحد الجبار، القادر على كل شيء. وتوضح الأسطورة اليابانية في كتاب نهون شوكي بأن الملكان أزناجي وأزنامي،تزاوجا، وجلسا على العرش السماوي، وحركوا عصاة مرصعة بالجواهر في بحر اليابان، ليتم تشكل جزر اليابان، ومعها التها ومن أهمهم "إلهة الشمس"، التي حمت اليابان بدفئها، وملأتها بالغابات والأشجار والأعشاب بأشعتها الناصعة،لتتغذى الحيوانات وتتكاثر وتملئ جزر اليابان بالخير والإزهار. كما تعتبر الأسطورة اليابانية العائلة الإمبراطورية سليلة إلهة الشمس، والتي تشكل منها أيضا الشعب الياباني بأكمله. فقد خلقت الأسطورة اليابانية التناغم بين الروحانيات والإنسان والطبيعة، بجبالها، وأنهارها، وغاباتها، ومخلوقاتها المختلفة.كما أن أسطورة تعدد "الالهة" والتي تزيد عن الخمسة مليون، خلقت تقبل الاحتمالات المختلفة، بدل فكر الحقيقة المطلقة، مما ساعد الإنسان الياباني أن يعيش بين أقرانه بود ووئام، واحترام وتناغم، لعلمه بأن أية فكرة هي احتمال يقبل النقاش فيه، مما يبعدهم عن التعصب والتطرف لفكرة الحقيقة المطلقة، التي لا شريك لها.
وتبين استطلاعات الرأي الغربية بأن الشعب الياباني قليل الاهتمام بالحبالرومانسي الغربي، فهو منغمس في حب عمله وأداء واجباته الاجتماعية. فالمرأة اليابانية التقليدية تكرس حياتها لخدمة زوجها وأطفالها، كما تعتبر وزيرة للمالية في البيت، فهي التي تستلم الراتب من زوجها، وتحدد بنود ميزانية العائلة. كما يعتبر الفرد الياباني أقل فرد يمارس الجنس بين شعوب العالم قاطبة. وقد لفت نظري مؤخرا بحث لاستطلاعات الرأي أجري في اليابان مؤخرا، ونشرت نتائجه على مرحلتين، المرحلة الأولى كانت في شهر يونيو، والمرحلة الثانية كانت في شهر سبتمبر الماضي. وقد كتب الصحفي الغربي، روجر بولفرز، تقرير عن هذين الاستطلاعين في صحيفة اليابان تايمز في الخامس والعشرين من شهر نوفمبر الماضي وبعنوان: "الحب الأول غير مجدي، حينما يكون اخر أمل في اليابان فرصة الزواج،" فيقول الكاتب في مقدمة مقاله: "الشاب يلتقي بالشابة ويجمعهم الحب، ولكن يبقى السؤال المحير ما الذي سيحدث بعد ذلك؟ وتعتمد الإجابة على هذا السؤال على شخصية الفرد، وعلى نوعية الجيل، وعلى توفر قلة من الأمتار المربعة كمساحة للخصوصية."
ويعرض الكاتب تاريخ حياته في اليابان ليقول: "في عام 1968، أي سنة واحدة بعد وصولي لليابان، شاهدت فلم أدهشني. وهو فلم سوسومو هاني، لهيب الحب الأول، الذي جمع المخرج مع الكاتب السينمائي شوجي تراياما. فمع أننا كنا في خضم سنوات الستينيات، ولكن حتى في اليابان كان هذا الفيلم، الذي ناقش حب المراهقة، له صدى صدمة كبيرة للرأي العام الياباني، بل دفع بحماة الأخلاقيات للصراخ بصوت عالي، خارج عن الثقافة اليابانية. فيلتقي في هذا الفيلم شون، الشاب الخجول والمحبط، بفتاة اسمها نانامي. ولم يمضي وقتطويل، وإلا بهم في فندق الحب، لتقف الشابة الجميلة عارية أمام الشاب شون،وتقول له: إفعل بي ما شئت!!!. وقد تكون هذه الكلمات موسيقي جميلة في أذن الرجال، ولكن الشاب المراهق، شون، القليل الخبرة في الحب، لم يلتقط إلا اذنها،ليدغدغها حتى استسلمت، وليتركوا فندق الحب وهم غير مقتنعين. ويعلق الكاتب على الفيلم بقوله: "فلم لهيب الحب هو طلوع ونزول بين شباب المراهقة. ومشاهد الفيلم، الذي شاهدت قبل سنوات طويلة، تلوح في مخيلتي، وأنا أقراء نتائج استطلاعات الرأي الذي قامت به شركة تأمين الكترونية خاصة، هذا العام،عام 2012."
وقد نشرت نتائج استطلاعات الحب الأول في شهر يونيو الماضي. وقد طرح هذا الاستطلاع ألف سؤال على الرجال والنساء التي تتراوح أعمارهم بين 20 و59 سنة، والذين يعيشون في مختلف مناطق اليابان. وتتعلق الأسئلة بالخبرة مع الحب ألأول، وما الهدف من ذلك الحب؟ وما كانت نتيجته النهائية؟ ويعلق الكاتب على نتائج هذا الاستطلاع بقوله: "لقد اندهشت حينما عرفت بأن متوسط عمر الذين جربوا الحب الأول هو 10.4 سنة، بينما 27.7% منهم مروا بتجربة الحب الأول وهم في السابعة من العمر، بل 90% منهم جربوا الحب الأول قبل أن يبلغوا سن 16 سنة. وبين الاستطلاع بأن 75% من هذه العينة جربت الحب الأول مع زميل لها في المدرسة، و2.8% مع مدرس بالمدرسة، بينما 1.6% منهم أحبومغني أو ممثل مشهور، و 0.3 % أحبوا شخص على الانترنت، والخلاصة بأن 1%فقط من هؤلاء تزوجوا من حبهم الأول.
كما نشر الاستطلاع الثاني في شهر سبتمبر الماضي، ويتعلق هذا الاستطلاع بنوعية نمط الحياة الزوجية. وقد طرحت الأسئلة على 450 رجل غير متزوج، وفي العشرينات من العمر. وقد تبين بأن 22.9% من هؤلاء لديهم صديقةيحبونها، و 50.4% لم يكن لديهم صديقة في وقت الاستطلاع، بينما 26.7% منهم لم يكن لديهم صديقة أبدا. كما تبين من الاستطلاع بأن 27.8% من هؤلاء الشباب يريدون الزاوج من صديقاتهم، ويعتقدون بأنهم سيستطيعون تحقيق ذلك مستقبلا.بينما 36.9% يريدون الزواج، ولكن لا يعتقدون بأنهم يستطيعون تحقيق هذا الزواج، في الوقت الذي هناك 35.3% منهم لا يريدون الزواج ابدا، لاعتقادهم بان ظروفهم المادية لا تسمح بذلك. والملفت للنظر بأن 90% من شباب العشرينيات أبدوا رغبة في تربية الأطفال، ويعتبر ذلك تغير ملفت للنظر عن الماضي، حيث لم يلعب الرجل الياباني سابقا أي دور بارز في تربية أطفاله، فهو يرجع البيت من عمله متأخرا حينما يكون الأطفال والزوجة في سبات عميق. كما يعتقد 22% من الذين لا يرغبون في الزواج، بأن الزواج والعائلة لن يجلب لهم السعادة المتوقعة،بينما معظم الشباب الياباني يعتقدون بأن الزواج والعائلة سيجلب لهم السعادة،ولكن ببساطة بارزة لا يعرفون هؤلاء الشباب كيف يحققونه، ويعتقد 60.8% منهم بأن أكبر عائق يواجههم هو تكاليف المحافظة على العائلة.
وتساءل الكاتب في نهاية مقاله: ما الذي نستنتجه من هذين الإستطلاعين؟ لنراجع عزيزي القارئ الديموغرافية السكانية للشعب الياباني، لنجد بأن ما يقرب 22% من الشعب الياباني يتجاوز أعمارهم الأربعة والستين عاما، ويعني ذلك بأن ربع الشعب الياباني لا يعمل ولا ينتج وعلى الدولة توفير تقاعد لمدة لا تقل عن متوسط 15 عشر عاما، حيث أن متوسط عمر المواطن الياباني يصل لأكثر من 80 عاما. بل يحتفل المواطن الياباني بولادته من جديد حينما يصل عمره للستين من العمر. وقد ادى تجنب الشباب الحب والزواج لقلة الأطفال بين شعب اليابان، مع زيادة نسبة المسنين لحوالي الربع والذي من المتوقع أن يزداد في منتصف هذا القرن لحوالي 45% من السكان. وقد أدى ذلك للانكماش السكاني، فقد بدأ ينحدر عدد سكان اليابان من 127 مليون، ليصل في عام 2050 إلى 90 مليون نسمة.
وهنا يتساءل الكاتب عن راسمالية العولمة الفائقة، ودورها في زيادة تباين الدخل، وانكماش الطبقة الوسطى، وخاصة في دول كالولايات المتحدة، حيث هناك تباين كبير في الدخل حيث أن عائلة أمريكية واحدة يبلغ ثرائها ما يملكه 110 مليون مواطن أمريكي منخفض الدخل. بل أن هناك 46 مليون مواطن أمريكي لا يغطيه الـتأمين الصحي الخاص، كما أن هناك 39 مليون مواطن أمريكي تحت خط الفقر. ويبقى السؤال المحير: هل أدت الرأسمالية الفائقة، بسوق العولمة الحرة المحررة من قيود الانظمة لتباين دخل فائق، جمع الثراء في يد حفنة صغيرة، وأزال الطبقة الوسطى، وحرم المواطن العادي من حتى الحب، الزواج، وبناء عائلة سعيدة؟ وهل هذه ظاهرة يابانية أم هي ظاهرة عولمة دولية، بداء الغرب بأكمله يعاني منها؟ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان
التعليقات