اصطلاحيا، التسامح مفهوم يعني العفو عند المقدرة وعدم رد الإساءة بالإساءة، والترفع عن الصغائر والسمو بالنفس البشرية الى مرتبة أخلاقية عالية. والتسامح كمفهوم أخلاقي اجتماعي دعا اليه كافة الرسل والأنبياء والمصلحين عبر التاريخ، لما له من دور واهمية كبرى في تحقيق وحدة وتضامن وتماسك المجتمعات والقضاء على الخلافات والصراعات بين الافراد والجماعات.والتسامح يعني احترام ثقافة وعقيدة وقيم الاخرين وهو ركيزة أساسية لحقوق الانسان والديمقراطية والعدل والحريات الإنسانية عامة.
ومن الناحية التاريخية، يعتبر هذا المفهوم وليد حركة الإصلاح الديني الأوروبية التي اقترحته كحل نهائي للاقتتال الطويل الأمد بين اتباع الديانة المسيحية خلال القرن السادس عشر، وكمدخل لإرساء أسس الاعتراف المتبادل بينهم. لهذا ظل المفهوم في البداية يحمل صبغة دينية، وُعد نداء للمحبة والرحمة والإحسان بين الناس عامة، على عد تعبير "جون لوك" في رسالته في التسامح، لكن شيئا فشيئا اخذ نطاق المفهوم يتسع ليشمل (فضلا عن الدين) السياسة والثقافة والاجتماع. وهكذا أصبح من مقتضياته الاعتراف للفرد / المواطن بحقه في الاختلاف في الاعتقاد والرأي، وبحقه في التعبير عن اعتقاده ورأيه سواء كان مجالهما دينيا او سياسيا او فلسفيا.
وقد ساهم الفلاسفة والمفكرون من أمثال "سبينوزا، وروسو، وفولتير"في احداث نقلة نوعية على مستوى إغناء دلالته وتوسيع مجال استعماله. وفي هذا الإطار كتب "سبينوزا" متسائلا في الفصل الأخير من رسالته في اللاهوت والسياسة: "إن أسوأ موقف توضع فيه الدولة هو ذلك الذي تبعث فيه الى المنفى بالشرفاء من رعاياها وكأنهم مجرمون، لا لشيء إلا انهم اعتنقوا آراء مخالفة لا يستطيعون إخفاءها". وفي نهاية المطاف، افضى مسار تطور المفهوم الى اعتباره إحدى دعائم الحداثة السياسية والفكريةوالاخلاقية.
وفي عصرنا الحديث هذا، تأكد العلماء من شيء جديد في رحلتهم لعلاج الأمراض المستعصية، وآخر هذه الاكتشافات ما وجدهالباحثون من أسرار التسامح، فقد أدرك علماء النفس حديثا أهمية الرضا عن النفس وعن الحياة وأهمية هذا الرضا في علاج الكثير من الاضطرابات النفسية. ففي دراسة نشرت في مجلة «دراسات السعادة» “Journal of Happiness Studies” اتضح أن هناك علاقة وثيقة بين التسامح والمغفرة والعفو من جهة، والسعادة والرضا من جهة ثانية، وقد تمت دراسة واقع وحياة كثير من الناس وكانت المفاجأة أن الأشخاص الأكثر سعادة هم الأكثر تسامحا مع غيرهم،فقرروا بعد ذلك اجراء التجارب لاكتشاف العلاقة بين التسامح وبين أهم أمراض العصر، أي "أمراض القلب"، وكانت المفاجأة مرة أخرى أن الأشخاص الذين تعودوا على العفو والتسامح هم أقل الأشخاص انفعالا. كما اكدت نتائج هذه الدراسات أن هؤلاء المتسامحين لا يعانون من ضغط الدم، وعمل القلب لديهم فيه انتظام أكثر من غيرهم، ولديهم قدرة على التفكير والابداع أكثر من الآخرين.
وفي عالمنا العربي الذي انقلبت احواله رأسا على عقب منذ انتفاضات الربيع العربي، وبعد انتشار ظاهرة العنف وظاهرة تفككالعلاقات الاجتماعية على كافة الأصعدة، وبعد أن أصبح الكبار والصغار على حد سواء إما ضحايا أو مجرمين بسبب هيمنة لغة العنف على الواقع المعاصر وغياب المثل والقيم الدينية والأخلاقية، بات من المهم جدا أن تتجلى وتسود ثقافة التسامح كإحدى أهم الضرورات الإنسانية والأخلاقية، الأمر الذي يجعل الفرد المعاصر يقف عند مفترق الطرق في التعامل مع الآخر الذي قد لا يتفق معه في أفكاره او معتقداته.
بعض ما قيل في التسامح:
إن الذات السلبية في الإنسان هي التي تغضب وتأخذ بالثأر وتعاقب، بينما الطبيعة الحقيقية للإنسان هي النقاء وسماحة النفس والصفاء والتسامح مع الآخرين. (إبراهيم الفقي)
قد يرى البعض أن التسامح انكسار، وأن الصمت هزيمة، لكنهم لا يعرفون أن التسامح يحتاج قوة أكبر من الانتقام، وأن الصمت أقوى من أي كلام. (احمد الشقيري)
مهما تعلم الناس من فنون، فلن يتعلموا شيئا يشبه فن التسامح. إنها القلوب النقية التي تسبح الله الغفور الرحيم صباح مساء.(جلال الخوالده)
الأصل في التسامح أن تستطيع الحياة مع قوم تعرف يقيناً أنهم خاطئون. (محمد كامل حسين)
لأن أندم على العفو خير من أن أندم على العقوبة. (الإمام جعفر الصادق)
وإن الكره ليرتجف أمام االحب وإن الحقد ليهتز أمام التسامح،وإن القسوة لترتعش أمام الرقة واللّين. (أيمن العتوم)
سامح صديقك إن زلت به قدم ... فلا يسلم إنسان من الزلل(مصطفى الغلاييني)
اذا استطعت كن إِما مسيحاً مسامِحاً … عداكَ وإِما فارسَ الحربِ عنترا
فما اللؤمُ إِلا إِن حقدت فلم تكن … كريماً فتعفو أو شُجاعاً فتثأرا(القروي)
التعليقات