بدأت الحضارة المعاصرة قبل حوالي خمسمائة عام، وترافقت مع تطورات اقتصادية وصناعية واجتماعية وسياسية كبيرة. واعتمدت هذه الحضارة الجديدة على الواقعية وروح الحداثة العلمية، فالفكرة المادية الجديدة تحتاج للدراسة والإثبات العلمي، مختلفة بذلك عن علوم الأخلاقيات والدين. وأصبح أبطال هذه الحضارة أصحاب الأختراعات وعقولهم المبدعة، وبدأت تتلاشى مواقع رجال الروحانيات في عالم تكنولوجية الذكاء الآلي. كما بداء يختفي التناغم بين الإنسانالعصري والطبيعة، وأصبح هذا الأنسان متسلط على الطبيعة والبيئة وربما أخيه الإنسان الأضعف، كما تخلخل الرباط المجتمعي وبداء الإنسان المعاصر يفقد تدريجيا إنسانيته الطبيعية. وقد أدى هذا الوضع الجديد لبروز نظرية الواقعية السياسية.
وقد رافقت الحضارة المعاصرة التكنولوجية الحديثة والثراء، ومع ذلك أستمر المجتمع الإنساني يعاني من الفقر والعبودية والتفرقة العنصرية والاستعمار والعنف والإرهاب، وأصبحت الحروب الطاحنة المحلية والعالمية، والحرب الباردة، وعنف الإرهاب خطرا، عالميا قضى على الأمن والأمان. وخلف ستار هذا العنف المدمر، استمرت الحرب بين واقعية السياسة البرغماتية، والنظريات الأخلاقيةللسياسة المثالية. فبينما حاول البرغماتيون أن يطبقوا السياسة من خلال الحقائق الحياتية الواقعية، توجه مؤمني السياسة المثالية وبأفكارهم الحالمة بعملهم لقلب الواقع والثورة ضده، لتنفيذ أفكارهم بحذافيرها بعيدا عن تحديات الواقع السياسي والاجتماعي. وقد مر تاريخ الدبلوماسية العالمية بنفس هذه التحديات.
وقد انتشرت الدبلوماسية الواقعية، الريل بوليتيك، المتشبثة بالواقعية مع الأيمان بالقومية والوطنية الشوفينية، والمعتمدة على الأهداف، بدون الاعتبارللمثاليات والأخلاقيات، كما اعتمدت على العنف والابتزاز السياسي والحرمان الاقتصادي للوصول إلى أهدافها بأية وسيلة.
لقد أستعمل الكاتب والسياسي الألماني لودويغ أوغست فان روكووا، في القرن التاسع عشر، ولأول مرة تعبير السياسة الواقعية، ريل بوليتيك. وكما استفاد منها الأمير كليمنز مترينيش، وزير الخارجية النمساوي في عام 1809، لإيجاد التوازن لقوى الدول الأوروبية والعمل على نشر السلام في هذه الدول. وقد كتب بعد المعاناة من رجالات الثورة الفرنسية فقال: "في اعتقادي بأن كلمة الحرية ليست نقطة مغادرة، بل هي الهدف النهائي، والنظام مع الانضباط هو الذي يوجد الحرية الحقيقية...وبدون انضباط، فاللجوء للحرية سيؤدي إلى الاستبداد." وبعدما هزمت أوربا نابليون بونابرت، تقدم الأمير بمفهوم "كونسرت أوروبا" ويعني ذلك خلق تناغم وتوازن بين العمل الأوربي، كما تتناغم الحان أداء الأدواتالموسيقية المختلفة لتقديم سيمفونية ممتعة، لإيجاد صيغة أوربية موحدة لخلق توازن قوى للوقاية من الحرب وغرس جذور السلام. وقد استغل هذه الفكرة بسمارك، قائد بروسيا، لتوحيد ألمانيا بطريقته الخاصة. كما استفاذ الرئيس رتشارد نكسون من نظرية هنري كيسنجر في الواقعية الدبلوماسية ليطور العلاقات بين بلده الرأسمالية مع الصين الشيوعية. فبينما يستعمل رجال الدبلوماسية الواقعية دبلوماسية الريل بوليتيك الواقعية لتحقيق أهدافهم السياسية والدبلوماسية، نجد رجال الدبلوماسية الإيديولوجية والمثالية، يلتزمونبقواعد صارمة لتحقيق أهداف أيديولوجية مقررة مسبقا.
وقد علق الزعيم الروحي للهند مهاتما غاندي على ما عاشه من دبلوماسية الواقعية الريل بوليتيك بقوله: "العين بالعين أدى لأن يصبح العالم أعمى." كما علق أيلي ويزل، الحائزة على جائزة النوبل للسلام، والناجي من المحرقة النازية، حينما سأل من هو أكثر شخصية حزينة في الكتاب المقدس، قال بأنه الخالق جل شأنه،بسب أسى الدمار الذي حصل في هذا العالم نتيجة الحروب التي جرت بين البشر باستغلال أسم الدين.
لقد علقت وزيرة الخارجية بعهد الرئيس الأمريكي كلينتون، السيدة مادلين اوليبرايت، في كتابها، قاهر القاهر، بوصف القرن العشرين بأنه: "أكثر القرون دموية في تاريخ الإنسانية." ومن الواضح بأن الدبلوماسية الواقعية لم تساعد في خلق رفاهية وسلام عالمي. فقد أستعمل بسمارك البروسي هذه الدبلوماسية بطريقته الخاصة لتوحيد ألمانيا، ولكنه في الحقيقة، زرع بذور دمارها في الحربين العالميتين. وقد علق صديقه وخليفته، فون رون، على الدبلوماسية الواقعية لبسمارك بقوله: "لا أحد يأكل من شجرة اللاأخلاقيات بدون حصانة." وقد عانى العالم من نتائج دبلوماسية الريل بوليتيك الواقعية، بحروب متكررة وعولمة الفقر والعنف والإرهاب وهدر الترليونات من الدولارات. وقد أكدت السيدة البرايت بالحاجة لمبادئ أساسية في الدبلوماسية العالمية وهي دبلوماسية الاقناع، لا دبلوماسية التهديد، لتستطيع الوصول للنتائج التي تهدف اليها. كما يجب أن نفهم ونستوعب كيف يتصرف الأعداء، ولماذا؟ وأكدت على ضرورة دمج الدبلوماسية الواقعية مع المثالية وتتوسطها الأخلاقيات.
لقد كانت من نتائج الدبلوماسية الواقعية اليابانية مأساة هزيمة الحرب العالمية الثانية، والدمار المرعب الذي سببته القنبلتين النوويتين على مدينتي هوريشيما ونجزاكي. وقد استفاد الشعب الياباني من هذه التجربة، وتوجهه للبناء والتنمية الاقتصادية والتطور التكنولوجي والاجتماعي. كما أصر الشعب الياباني على دبلوماسية السلام والتناغم في العمل مع شعوب العالم المختلفة، ومع الطبيعة،والبيئة، أي "كونسرت تناغمي عالمي بشري بيئي". ومنذ بداء السبعينات فصلت السياسة الخارجية اليابانية بين الاقتصاد والسياسة في علاقاتها الدولية. فركزتعلى التعاون الاقتصادي مع معظم دول العالم بدون النظر لعقائدها أو سياساتها الخاصة. وقد نجحت لبناء جسور ثقة مع الكثير من الدول الغربية والأسيويةوالإفريقية. وتوجهت الدبلوماسية اليابانية مؤخرا نحو التعامل مع تحديات العولمة الجديدة، كما أنها تتهيئ بمواردها البشرية والاقتصادية الغنية لتلعب دورا قياديا في المجتمع الدولي.
ومع بداية الالفية الثالثة خسرت الشيوعية مواقعها الرائدة، كما تعاني الدول الاشتراكية من بطء في النمو الاقتصادي مع زيادة في عدد القوى البشرية العاملة الغيرة منافسه عالميا، بينما برزت الرأسمالية لتقود العالم نحو اقتصادالسوق والعولمة، والتي بدأت تبرز معاناة بعض الشعوب من سلبياتها، والتي أدت لثورات انتخابية عديدة، في الغرب والشرق. ويناقش علماء الاقتصاد اليوم تطوير الرأسمالية لتكون مسئولة اجتماعيا، بإيجاد الضوابط لتنظيم قوانين اقتصاد سوق العولمة، والوقاية من الفقر والعوز للفئات التي تتأخر في المنافسة. وقد أكد السيد شنزو أبييه، رئيس الوزراء الياباني، في كتابة، اليابان البلد الجميلة، أهمية اقتصاد السوق، والرأسمالية الملتزمة اجتماعيا. كما أدخل مفهوم "الفرصة الثانية"لمن يتأخرون في المنافسة في اقتصاد السوق، بتهيئتهم بالتعليم والتدريب من جديد، ليحاولوا مرة أخرى لينضموا لمنافسة اقتصاد السوق.
وقد تقدمت حكومة السيد شنزو أبييه بمفهوم السياسة الخارجية بالقيم العالمية. وقد عبرت وزارة الخارجية اليابانية عن ذلك، بأن اليابان قد قررت أن تلتزم بالدبلوماسية "الموجهة بالقيم الإنسانية". وتؤكد هذه الدبلوماسية بأن اليابان ستعمل في شراكه مع الدول للوصول معا للرفاهية والحرية. ويشمل أساسيات هذه الشراكة تطوير الديمقراطية، والحرية، ومبادئ حقوق الإنسان، وتطوير وتطبيق القانون، وتطوير وتنظيم اقتصاد السوق. وتدل جميع هذه الظواهر بإن يابان المستقبل ستكون اليابان المسئولة أخلاقيا في عالمنا الجديد. ومن الواضح بأن الشعب الياباني يريد أن ينقل المزيج من خبرته وحكمته بعد الحرب، مع ثقافته وقيمه الاجتماعية، نحو السلام العالمي، ومع التناغم بين الإنسان والطبيعة، لنشر السعادة والرفاهية الاقتصادية في جميع أنحاء العالم. وستلعب هذه الحكمة اليابانية دورا هاما للعمل على خلق عالم بدون فقر أو إرهاب، كما ستنفتح أسواق جديدة كبيرة للمنتجات اليابانية المتطورة والمتقنة تكنولوجيا. وبذلك تهيئ اليابان شعبها ليلعب دورا قياديا في عالم العولمة الجديد. ولنا لقاء.
التعليقات