عام آخر تسقط أوراقه إيذاناً بالرحيل ، ونستقبل معه عاماً جديداً وواعداً بالأحداث والمناسبات التي يختلط فيها المبشّر بالمنفّر .

فيما يخص العام المنصرم بسلة أحداثه ووقائعه ، لم يتحرك في واقع العرب شيء يذكر سوى مزيد من تكريس الضياع والهرولة نحو المجهول ، باستثناء وهج الأمل والعمل الذي يشع من بعض دول الخليج وهي تسابق للالتحاق بالعالم الأول رغم قتامة الأوضاع والظروف التي تلفّ المنطقة المحيطة بها .

تزهّد أحوال العام المنصرم في استقبال يليق بالعام الجديد ، وبالرغم من أن بعض بؤر التوتر أصبحت أقل مما كانت عليه خلال السنوات الفائتة&&، لا تزال الكثير من ملفات المنطقة مفتوحة الجراح ، وقابلة للتداعيات ، الأمر الذي يقلص من جهة فرص التفاؤل بالضيف الجديد .

انتهى العام بهدوء متذبذب في سوريا ، تراجعت حدة العنف والقتال بعد أن انحسرت قوى الثورة إلى محافظة إدلب التي كانت تحيق بها نذر الحرب قبل أن تحوز هدوءاً حذراً نتج عن اتفاق تركي وروسي .

كما حدّ التحالف الدولي من فعالية تنظيم داعش وانتشار عناصره ،&&بعد أن أغلظ في ملاحقتهم ، لكن شهية الشمال السوري مفتوحة لكثير من التكهنات بشأن مستقبل هذا الجزء الملتهب من سوريا الواهنة ، الأكراد يخذلون وللمرة الثانية من رعاتهم الأمريكان بعد قرار الانسحاب المفاجئ للقوات الأمريكية هناك ، وأنقرة متحفزة لخوض جولة ثانية من معركة شرق الفرات لتعزيز دورها وحضورها وإخماد أنفاس المكون الكردي النشط والمتطلع فيها .

الرئيس السوداني الذي فاجأ المنطقة بهبوط طائرته في دمشق ولقاء الأسد ، لم يتسنى لعجلات طائرته أن تحتك بالتراب السوداني ، إلا واشتعلت في أطراف البلاد نيران ثورة شعبية كبيرة ، لا يدرى إلى أي مصير ستنتهي ، ويبدو أن وعود البشير وخطاباته لا تشبع ولا تسمن حتى الآن .

في اليمن يحقق التحالف العربي بقيادة السعودية تقدماً كبيراً على مستوى الجبهات ، وميليشيا الحوثي تعاني من الانحسار وشدة البأس ، لكن الأكلاف الإنسانية تتضاعف هناك ، والضغوط الدولية تتزايد لحل الأزمة ، وكان قد تحقق لتصميم التحالف على إنهاء سيطرة الحوثيين أن يخضعهم لاتفاق دولي بعد لقاء السويد ، بعد أن أمعنت الميليشيا في التهرب منه طويلاً في السابق .

الأمر نفسه في ليبيا التي عانت من ويلات الاحتراب الداخلي طويلاً ، أصبحت البلد مشلولة ومتعطشة إلى مخرج سياسي يخفف من وطأة الحرب ، ويخرج بالبلاد وأهلها من دخان البنادق وألعوبات الفنادق ، إلى سعة السلام والهدوء ، الهدوء الذي تحاول تبديده جهود تركية وقطرية وهي تبتعث سفن السلاح إلى شواطئ ليبيا الشمالية .

ثمة لاعب جديد دخل إلى الميدان الليبي ، روسيا الباحث عن مكانها القديم من ترتيب العالم ، تعيد تأهيل نجل الرئيس السابق سيف الإسلام القذافي للمشاركة عبره في تقرير مصير البلد الذي خسرته ذات غفلة .

ليبيا التي أخرجت روسيا من بابها الخلفي تعود إليه مجدداً ، وقد كان الدرس الليبي أكثر ما حرض الكرملين وقيصره على تناول الملف السوري بكل هذه الجرأة والإقدام .

لا جديد يذكر في الشأن الفلسطيني ، سوى دخان صفقة القرن الذي يتصاعد ثم ما يلبث أن يتلاشى دون أن يدرى عن محل انبعاثه ، ولأن الوضع هشّ تماماً ، لم تحرك مسألة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس ، سوى بيانات الشجب والاستنكار التي أصبحت لصيقة بالقضية التي تراجع حضورها في راهن العرب واهتمامهم .

السلطة الفلسطينية تتداعى ببرود ، عاجزة من إبداء أي تصرف ينبي عن بعض حياة في جسدها ، وحماس كثاني حركات الداخل الفلسطيني تعاني تبعات الضعف الذي لحق برعاتها الإقليميين ، والقضية الفلسطينية تراوح مكانها .

أما اسرائيل التي تعيش هدوءاً مستتراً مع محيطها ، تلتقط كل إشارة عابرة أو قارّة للتطبيع معها ، وقد جسدت الزيارة الصدمة لنتنياهو إلى سلطنة عمان ، صورة عن ارتباك المشهد وضياع المنطق عن كل حدث سياسي يصدر في المنطقة .

يواصل الرئيس الأمريكي دونالد ترمب ارتكاب غرائبه بلا كلل ، يصبّ مزيداً من الحيرة على المنطقة التي استمرأت سيولة الأحداث بلا نهايات ، تناقضاته التي أعجزت حتى مقربيه عن الفهم ، تنعكس سلباً على واقع العرب .

فهو رغم إصراره على مواجهة المارد الإيراني في المنطقة والحدّ من تأثير سلوكها العدائي تجاه الدول العربية وشعوبها ، الأمر الذي ترجمه بالانسحاب من الاتفاق النووي وتنفيذ خطة عقوبات قاسية على طهران ، فإن أحداً لا يستطيع أن يجزم بما يمكن لترمب أن يقترفه ويعيد معه بعثرة الأوراق وتقويض السياق .

مثل ما حدث بزيارته المفاجئة للقوات الأميركية المنتشرة في العراق بمناسبة عيد الميلاد ، وعقب أيام من الإعلان عن سحب قوات بلاده من سوريا ، دون أن يأبه بإشعار أو لقاء أحد من مسؤولي حكومة بغداد .

لو اخترت أو اضطررت مرة أن تقلب ناظريك في خريطة العالم العربي ، ستكتشف بسهولة حجم اللأواء التي تعتصر كل جزء من خرائط الأسى هذه ، ولا نكاد نبالغ لو قلنا بأنك حيث تضع اصبعك على طرف منها ستغوص في وحل المشاكل المعقدة&.

مصر المتثاقلة نحو مخرج من نفق الظروف الصعبة والضائقة الاقتصادية ، ببطؤ شديد تعالج إشكالاتها المتراكمة ، ولولا عون دول خليجية تؤمن بضرورة أن تبقى مصر صلبة في وجه عواصفها ، لبقيت الحالة أكثر سوءاً مما هي عليه الآن&.

ينطبق الأمر نفسه على الأردن ، الذي استبدت به الضائقة المالية إلى مستوى الحرج ، فيما الشعب يغلي ويتضجر ، تحاول الحكومة حسب معادلات شديدة الحساسية أن تؤجل من حالة الانفجار .

والجزائر العاجزة عن تحقيق اختراق في مستقبل الحكم في البلاد ، مستسلمة هي الأخرى لماء الأيام وهي تجري تحت قدميها ، ومنسحبة تماماً من أي دور يمكن أن تلعبه لوقف نزيف خرائط الأسى .

تونس والمغرب منكفئتان على مناولة أوضاعهما غير المستقرة ، ولبنان ضاق بحلوله المستعصية وعاجز عن تشكيل حكومة منذ سنوات ، وهو عن سواها أعجز .

ربما تلمع سمرة الصومال في جدار الهم العربي ، وتحيي عنقاء الأمل التي أخمدتها متاعب الطريق ، تحاول مقديشو أن تنهض من ماضيها المأزوم إلى آخر مختلف يتفحص قدراته المعطلة وأحلامه المؤجلة .

لكن ثمة ما يتربص بهذا البلد المثخن بالندوب ، وأكثر ما يخشى عليها أن تنحرف بقيامتها تحت ضغط الاستقطابات الحادة في المنطقة وتضيع في ورطة الحسابات المعقدة ، والتيه الكبير .

يبدو الخليج وحدة كبارقة يتيمة في أفق العرب ، مشرئباً إلى مستقبله وعلى هدى رؤى التطور التي يتبناها ويسافر إليها ، رغم تحديات السياسة وتقلبات الاقتصاد والأزمات الطارئة التي تشتعل في عباءته كل مرة ، يحاول أن يدأب في سيره وسط حقل من المفاجآت السارة والضارّة ، وسيكون لو نجح مفتتحاً لكثير من انغلاقات الواقع العربي .

ورغم مرارة الخلاف مع قطر ، وإصرار الدوحة على الذهاب بعيداً في مناجزة الرباعي العربي الذي يريد أن يرد إليها بعض عقلها ورشدها ، يبقى واقع الخليج أقل ضراوة وهشاشة مما يبدو عليه الوطن العربي في جملته .

&