على مسافة قصيرة من باب البحرين أشهر معالم البلد الآمن في الحافة الشرقية للجزيرة العربية ، يقع واحد من الصروح الثقافية المميزة الذي افتتح مطلع شهر مارس ويوثق لسيرة واحد من الرموز السعودية التي برعت في فنون دبلوماسية وثقافية وإنسانية مختلفة حتى أضحى أيقونة سعودية وخليجية في مقدمة الأسماء العربية اللامعة.
منامة القصيبي هو اسم المشروع ، وهو صرح ثقافي مميز يعكس حياة الشاعر والسفير والوزير والإصلاحي والليبرالي الراحل غازي القصيبي، تلك الشخصية السعودية التي عرف عنها حبها الجمّ للبحرين.
وليس الاسم وحده يؤشر إلى العلاقة الأثيرة بين البلدين الخليجيين ، وهو يجمع بين اسم العاصمة البحرينية والشخصية السعودية ، ولكن المشروع نفسه تنفيذاً وتمويلاً يجمع بين البلدين كذلك ، إذ تبنت تنفيذه مؤسسة بحرينية هي مركز الشيخ إبراهيم بن محمّد آل خليفة للثقافة والبحوث ، وموّلته جهة سعودية هي مؤسسة الوليد الإنسانية التي يرأس مجلس أمنائها الأمير الوليد بن طلال بن عبد العزيز آل سعود.
وقد جرى تجديد وترميم منزل تاريخي يملكه السيد صلاح القصيبي، فيما استعان مركز الشيخ إبراهيم بفريق دولي لإظهار الإرث الفكري للقصيبي بأبهى حلّة.
وتم إحياء البيت الواقع في " فريج الفاضل " أحد أعرق أحياء العاصمة المنامة ، وتوظيفه كمُتحف لمأثورات القصيبي، وأضحى اليوم مزاراً ثقافياً وسياحياً يؤمه الناس ويجدون فيه لمحة من تاريخ رجل عظيم ترك بصمات واسعة في واقع وطنه ، وفي البلد الشقيق الذي أحبه واستوطن قلبه.
بين الأزقة الضيقة العتيقة لحي الفاضل وخلف الجامع الكبير فيه ، يقبع هذا البيت الذي صممّ بطريقة عصرية وتفاعلية دون أن يفقد هوية المكان وروح البحرين التي تكسو جدرانه وعمرانه ، وعلى واجهة البيت سطرت بحروف كبيرة واحدة من قصائد القصيبي الخالدة التي أودع فيها حبه الكبير للبحرين " الضوء لاح .. فديت ضوءك بالسواحل يا منامة ، فوق الخليج .. أراك زاهية الملامح كابتسامة ".
زرت المكان القائم بين البيوت الدافئة لأهالي حي الفاضل وسط المنامة ، تجد في البيت بعض مقتنيات القصيبي الشخصية خلال مسيرته شاعراً ومثقفاً نافس ذات يوم على الفوز بمقعد رئيس منظمة اليونيسكو ، وعمله دبلوماسياً ووزيراً ورائداً للعمل الحكومي المنتج والمؤثر ، وبفضل مسيرة حافلة ومميزة ، لا يزال ذكر القصيبي&حاضراً ونابضاً في ذاكرة الأجيال الراهنة رمزاً ومثالاً في الأدب والعمل ، وسيضيف هذا المعلم التوثيقي مزيداً من كاريزما حضوره في الذاكرة السعودية والخليجية عموماً.
كما يضم البيت عروضاً رقمية وفلمية حولت بعض زوايا بيت غازي القصيبيّ إلى متحف تفاعليّ صغير يحضر فيه القصيبيّ بالصوت والصورة عبر مراحل حياته ومساراتها المتعدّدة ، وصوته يعبق في المكان وهو يتلو بعض فرائد قصائده بصوته المتمهّل وسكينته المعهودة في الحديث والإلقاء.
ويوجد في بيت القصيبيّ حديقة المنزل التي صمَّمها ماديسون كوكس التي ربطت البيت التراثيّ والجزء الحديث حيث يوجد مقهى من تصميم عمّار بشير وقاعة مخصصة للمعارض المؤقتة والنشاطات الثقافيّة.
في الطابق الثاني من المنزل ، عمل فنيّ بعنوان «في عين العاصفة» للفنانة البحرينيّة الشيخة هلا بنت محمد آل خليفة، يوثق الجانب العروبيّ من شخصية القصيبي ، وقدمته الفنانة كعمل يجسد فكرة وطن متكامل، رغم العواصف تقف الأعلام شامخة مرفوعة الرأس، يحمل العمل حلم وحدة الأوطان وأملاً لزرع الورود في أراضيه، بين الحدود والرمال والبحار، بين السماء والماء، يبقى الانتماء الصادق السلاح الذي به نصدّ العواصف.
وعنوان هذا العمل الفني ، كان اسم الزاوية الصحفية التي كتب تحتها القصيبي سلسلة مقالات لا تنسى إبان غزو العراق للكويت ، وقد دافع عن المشروع الخليجي والقضية العربية ووقف سداً منيعاً ضد الأفكار الأيديلوجية التي انبثت وقتئذ وحاولت أن تخرق سفينة العبور من الأزمة وتفتك بالمكاسب التي تحققت ، لكنه وقف لها بالمرصاد متسلحاً برشاقة قلمه ورجاحة طرحه ونباهة أفكاره ووجاهة آرائه.
قبل أربع سنوات من رحيله ، بينما هو يزور بيت ابراهيم العريض للشعر في البحرين ، أسرّ إلى زوجته التي كانت ترافقه حينها ، أنه يودّ لو أصبح له منزلاً يضم رسائله وصوره ومقتنياته مثله ، لم تخيب البحرين التي أحبها ظنّه ، وتحول البيت الذي ترعرع فيه منذ سنوات الطفولة الباكرة إلى مراحل الشباب الأولى إلى متحف استثنائي يوثق سيرته ومسيرته.
الشّاعر الذي لذاكرته موقعان، أحدهما موطنه الأصل، والآخر موطن قلبه البحرين، يستعيد برفقة مركز الشّيخ إبراهيم أجمل ملامس ذاكرته ، بيته بفريج الفاضل في المنامة .
في هذا العمران الثّقافيّ ذي الملامح التّراثيّة الجميلة، تكرّس الثّقافة عبر ترميمه مكانًا لنتاجات ومأثورات الشّاعر غازي القصيبيّ، بعض ملامح سيرته، وما أبدعه في الشّعر والرّواية والأدب والفكر، ممّا أثرى الفكر على امتداد الوطن العربيّ.
الزوّار في هذا البيت أمام سيرةٍ ممتدّة يشتبهون فيها ما بين شخصِ القصيبيّ وما بين أعماله الثّقافيّة والفكريّة، بقلبِ الفريجِ الذي له مع الشّاعر حكاية، وكأنّه لا ينسى ، سيرةُ البيتِ وسيرةِ العمرِ للشّاعرِ القصيبيّ يؤرّخها بيته، كي تبقى المدينة تتذكّر شاعرًا أحبّها عميقًا، وبالمثلِ هي تفعلُ أيضًا.
أصبح بين البحرين والسعودية اليوم جسران ، لا جسر واحد فقط .
التعليقات