حين شدت فيروز برائعتها (بغداد والشعراء والصور ..ذهـب الزمان وضوعه العطر.. يا ألف ليلة .. يامكملة الإعراس يغسل وجهك القمر). كانت تعيدنا بصوتها الملائكي الى مجد بغداد، حاضرة الزمان وأجمل مدن العالم . كانت بغداد فعلا يغسل وجهها القمر كل ليلة .. وكان أبو نؤاس على ضوء القمر الساطع يرتشف الكأس متكئا على وسادته بضفاف دجلة الخير وأم البساتين . ويشتم رائحة السمك المسكوف التي تملأ المكان ، وعوائل بغدادية تفترش العشب وتستمتع بخرير مياه دجلة يرن في الأسماع.

كان شارع الرشيد يزهو تمثال&الرصافي وبمحلات الشكرجي ومقرات الصحف البغدادية في الحيدرخانة. ويتفاخر بمنظر مثقفي بغداد وهم يتجولون في مكتبات فرع المتنبي، والأجمل منه، منظر جميلات بغداد وهن يتجولن في شارع النهر " البنات "، وهناك قبل نهاية الشارع يستمع المارة &عبر المكبر الخارجي الى حضيري أبو عزيز وهو يشدو بإسطوانات الجقمقاجي " عاين يا دكتور ".ث كهرمانة تصب على& مدار الساعة زيتها على رؤوس الأربعين حرامي في ساحتها لتخرجهم من جحورهم. وليس بعيدا عنها كان المسرح الوطني يضج بالجمهور البغدادي الراقي وهم يتابعون مسرحية عطيل أو هاملت ، يتألق فيها يوسف العاني وجعفر السعدي وأسعد عبدالرزاق و ناهدة الرماح وسعدية الزيدي وفاطمة الربيعي ، وغيرهم من عباقرة التمثيل في العراق .

كانت بغداد في ذلك الزمن جميلة حتى بمناظر العربات المتجمعة في غبشات الفجر عند ساحة باب المعظم وهي تبيع شوربة العدس للجنود الذاهبين الى معسكراتهم في التاجي والرشيد .وجميلة أيضا بباصاتها الحمر&الي كانت تغطي بغداد من جنوبها الى شمالها، ومن شرقها الى غربها ، وكانت هذه الباصات تعمل الى ساعات الفجر حتى &لايبقى في بغداد ساهر يناجي القمر.

وكانت السينمات تتسابق فيما بينها. الخيام تنافس الرصافي ، والنجوم تنافس بابل . والمقاهي تمتليء أيضا بروادها . الشهبندر ، والبرلمان ، وحسن عجمي ، ومقهى أم كلثوم لعبدالمعين الموصلي هو الملاذ والملجأ لعشاق الزمن الجميل .

اليوم لم تعد هناك كهرمانة أخرى تعاقب لصوص بغداد الذين يسرقون القوت من أفواه الأطفال . ولم يعد هناك حضيري أبو عزيز أو داخل حسن أو سعدي الحلي ، ولا محمد القبانجي وناظم الغزالي. ولم يعد لصوت مائدة نزهت أو أحلام وهبي أو لميعة توفيق من أثر .غاب خليل شوقي وخليل الرفاعي وبدري حسون فريد. إفتقدنا عوني كرومي ومحمد شكري جميل ..لم نعد نرى سوى أشباه المطربين ، وأقزام التمثيل ،وصغار النحاتين والرسامين. ولم نعد نشتم ريحة كباب كويسنجق، ولا رائحة سندويجات أبو يونان، ولا طعم شربت أبو زبالة، ولا شاي العم أبو فاضل بساحة النهضة، ولا قيمر أم رضية .

شارع الرشيد يحتضر ويغرق في الزبالة . ساحات بغداد تغرق في الوحل والفيضانات في الشتاء وفي الغبار بالصيف . شارع أبو نؤاس أصبح ثكنة عسكرية يمنع الاقتراب منها . فنادقه الجميلة إندثرت ، باراته أغلقت ، مطاعمه أقفلت . بنايات بغداد الجميلة شوهت معالمها . مقاهيها اصبحت كئيبة بمنظر روادها المشغولون بموبايلاتهم وفيسبوكاتهم .كنا نحن نعيش في ذلك الزمن الجميل ، واليوم أصبحنا نعيش في زمن أغبر . وأتمثل بقول عماد الدين ألاصبهاني الذي أحرقه الشوق الى مافقد حين قال :

&أرى الحزن لا يجدي على من فقدته&& &&

&ولو كان في حزني مزيد لزدته

&تغيرت الأحوال بعدك كلها&&&&&&&&&&&&& &&&&

فلست أرى الدنيا على ما عهدته

&عقدت بك الأيمان بالنجح واثقاً &&&&&&&&&&

&فحلّت يد الأقدار ما قد عقدته

&وكان اعتقادي أنك الدّهر مسعدي&&&&&& &

فخانتني الأيام فيما اعتقدته&