البير الخوري من بيروت: صك البراءة الذي تسلّمه رئيس الجمهورية اللبنانية إميل لحود على بياض من تقرير ميليس رئيس لجنة التحقيق الدولية ديتليف ميليس في جريمة اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري ورفاقه، ومن بعد تأكيد هذا الأخير على أن لا شأن للرئيس لحود لا من قريب ولا من بعيد، بهذه الجريمة الإرهابية، مكّنت سيد بعبدا الممدد له قسراً لثلاث سنوات تنتهي في ايلول/ سبتمبر 2007، من استعادة بعض مواقع رئاسة الجمهورية ونفوذها، لكنها لم توفّر مظلة لبنانية وإقليمية ودولية، تمكنه من استكمال ما وعد به اللبنانيين مباشرة بعد تصويت مجلس النواب على قرار التمديد قسراً، او عن قناعة، من تحقيق استقرار أمني وسياسي واقتصادي للبلاد، في خلال السنوات الثلاث المقبلة، وحيث جاءت الأحداث المؤلمة، بما فيها سلسلة الاغتيالات والتفجيرات، لتؤكد أن الرئيس لحود لم يعد يمتلك زمام الأمور، خصوصاً بعد انسحاب القوات السورية ـ العسكرية والمخابراتية من لبنان، ثم إلقاء القبض على قادة الأجهزة الأمنية الأربعة المقربين منه، بتهمة المشاركة في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، وبالتالي تحميل رئيس الجمهورية مسؤولية ولو معنوية، في عملية إرهابية، شكّلت انقلاباً حقيقياً في السياسة اللبنانية ما يستدعي بالضرورة، جاء على لسان وليد جنبلاط وسعد الحريري وحلفائهما في الأكثرية النيابية، بين مسلمين ومسيحيين، استقالة رئيس الجمهورية أو إقالته بالتظاهرات الشعبية، ولو تطلب ذلك الزحف إلى بعبدا.
ويبدو أن رهان الرئيس لحود على براءته الكاملة معنوياً وحسياً من دم الرئيس الحريري، أثبت جدواه، فلا هو كان على استعداد للتخلي عن مسؤولياته الدستورية وتقديم استقالته، رغم الضغوط المحلية والدولية التي واجهته منذ الأيام الأولى للتمديد، وصولاً إلى ما بعد صدور تقرير ميليس، ولا ايضاً تمكنت الأكثرية النيابية بكتلها السياسية، المسيحية والإسلامية، من استكمال مخططها بإسقاطه في داخل مجلس النواب، ولا كذلك في الشارع، وحيث جاءه صك البراءة الدولي ليزيد من قناعاته وعناده، وليؤكد المرة تلو الأخرى، وبمزيد من الإصرار، أنه باقٍ في موقعه حتى آخر ساعة من ولايته. لا بل إن الحديث عن تنحي لحود قبل نهاية ولايته، كما ذكرت مصادر بعبدا، هو "حديث خرافة" وأن كلام ميليس جاء بمثابة "تأكيد ما هو مؤكد"، مشيرة إلى أن كل ما قيل ويقال عن مسؤولية معنوية لرئيس الجمهورية، هو "كلام خاطئ ومشبوه".
هل يكفي كلام ميليس وبراءة لحود لا رجاء الحديث، في الظروف الراهنة، عن معركة البديل عن رئيس الجمهورية؟
ليس بالضرورة.. فالمعركة قائمة طالما أن تقرير ميليس لم يكتمل، وطالما أن التحقيقات مستمرة لبنانياً ودولياً، وطالما أن المحاكمات قد تقلب المعطيات رأساً على عقب، ما يفسح في المجال امام ثغرة ما لإدانة الرئيس لحود، تفرض على جميع المسؤولين اللبنانيين استباق الأمور لمواجهة المفاجآت، وهي كثيرة ومثيرة، وقد تفتح معركة رئاسة الجمهورية مجدداً على مصراعيها.
واختيار خليفة للرئيس لحود في حال أدت التحقيقات القائمة الى إنهاء ولايته أو استقالته ليس بالأمر السهل أو المبسط، وحيث كانت تتوضح من خلال المنازلات السياسية والاسماء المرشحة لرئاسة الجمهورية ان المطالبة بوجوب تنحي الرئيس لحود شيء والانقسامات على الرئيس المقبل شيء آخر. والحقيقة أن معركة رئاسة الجمهورية عبرت في ثلاث مراحل وصولاً إلى الصراع القائم اليوم. فقبل التمديد القسري، تهافت المسترئسون إلى تقديم اوراق اعتمادهم على الشاشات وأصحاب القرار، إقليمياً ودولياً، وبعد التوقيفات التي طالت قادة الاجهزة الامنية حلفاء لحود، بدا للأكثرية النيابية ان رئيس الجمهورية لا بد وأن يقدم على الاستقالة بعدما وصل الموس إلى ذقنه، فبادروا إلى شن الهجوم تلو الآخر، مطالبين باستقالته وإقالته، إنما وفي المرة التالية والاخيرة، تأكد لهؤلاء أن ما يطالبون به سقط بـ"الضربة النافية" وليس "القاضية" من خلال تقرير ميليس، وهم الذين راهنوا كثيراً على أن القاضي الدولي لن يدع مجالاً لأي شك بتحميل الرئيس لحود بعض المسؤولية في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ولو كانت مسؤولية معنوية، الأمر الذي لم يحدث، ما دفع وليد جنبلاط وسعد الحريري، وكل الأفرقاء المسحيين الى شد الفرامل والتوقف عند اطلاق النار، وبالتالي الامتناع عن المطالبة العلنية بتنحية رئيس الجمهورية، أقله في الظرف الراهن.
ولا بد بالتالي من اعتماد استراتيجية جديدة للحملة المقبلة، يتولاها المسيحيون، والموارنة تحديداً ليكونوا في مقدمة المطالبين باستقالة رئيس الجمهورية أو إقالته، على ان يبقى المسلمون قوة ضغط في هذا الاتجاه، وذلك تفادياً لأي إثارة طائفية قد يتسبب بها الانقلاب بالأدوار.
ومطالبة الموارنة ليكونوا قادة الاستراتيجية ا لجديدة يعني في المقام الأول، البطريرك مار نصر الله بطرس صفير، وبعده النائب العماد ميشال عون، ثم قائد القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع، وعلى هذا الثلاثي يمكن للاكثرية النيابية، أن تحقق هدفها الذي سعت إليه وما زالت بإزاحة سيد بعبدا.
وبهذا التوجه، يتأكد أن البطريرك صفير يبقى بيضة القبان، وهو حتى هذه اللحظة يرفض أن يحرك لإجبار لحود على الاستقالة تحت الضغط، لأنه يخشى ان يتحول مثل هذا الأمر إلى سابقة، مذكراً المعنيين بأنه كان من اشد المعارضين للتمديد، "وجاء تأكيد كم لبناني لبنان مما يعانيه اليوم، وعليكم اليوم أن تتحملوا مسؤولية الموقف الذي اتخذتموه"...
وما يقوله صفير يختلف تماماً عن الرابح في الساحة السياسية اليوم، لا بل انه يقول ما ليس في استطاعة اي من زعماء الموارنة ان يقوله في وجه المطالبين باستقالة رئيس الجمهورية. طبعاً لا تتوقف المسألة عند المواصفات الشخصية للبطريرك صفير، وإنما للموقع الذي يتبوأ مركز الذروة فيه، اي لدور الزعامة اللاهوتية في ضبط ايقاعات السياسة المارونية وديناميتها في الظروف المصيرية، وبالتالي، يتسنم البطريرك صفير مهمة اخراج القرار السياسي الماروني، والمسيحي عموماً من دائرة انعدام الوزن، وهي مهمة صعبة وشاقة، خصوصا ان الانتقال من انعدام الوزن إلى التوازن يقتضي بعض التضحيات من جميع الافرقاء، حتى يستعيد موقع رئاسة الجمهورية موقعه المتقدم كحافظ للدستور وحامي المؤسسات، وبالتالي الوصول الى قناعة لدى جميع اللبنانيين بأن اختيار رئيس جديد للبلاد لا يتم بإرادة مارونية فحسب، إنما بإجماع وطني كامل، ومن دون هذا الاجماع يفقد هذا الموقع اهميته، سواء لدى الموارنة أو لدى جميع الطوائف والافرقاء.
والملمون بالتاريخ السياسي، يرون الى سياسة البطريرك صفير كجزء لا ينفصم من سياسات طويلة الامد تنهجها بكركي على مدى حقب طويلة، ذلك ان ما من مرحلة او ازمة، قطعت الخاصرة المارونية خط العلاقة مع المسلمين اللبنانيين ومع العرب حتى في اقسى لحظات العداء والانطواء الكياني. وهذا الموقف هو بذاته احد المواقف الستراتيجية للبطريرك صفير الذي هو "بطريرك لبنان وليس بطريرك الموارنة فقط"، ثم انه من الحكمة لسيد بكركي ان يحافظ على الحبل السري الذي يشد به المسلمين والعرب إلى لبنان.
والواضح ان الحركة البطريركية الاخيرة، وما قبل الاخيرة ومنذ صوّت مجلس النواب على التمديد، ثم الجريمة الارهابية التي قضت على الرئيس الحريري، وما تبعها من اغتيالات وتفجيرات وتطورات وتداعيات، هذه الحركة افحت عن دبلوماسيد غاية في الدقة، هدفت الى صيانة موقع رئاسة الجمهورية بوجود الرئيس اميل لحود ام بغيره.. وإذا كان لا بد من بدء الاستعداد لانتخاب رئيس جديد، فهذا منوط بقرار الرئيس لحود وهذه الاعتبارات كثيرة، اولها صك البراءة الذي أهداه إياه تقرير ميليس، ومن ثم حلفاؤه السياسيون، وهم يشكلون حتى الآن سداً منيعاً في وجه المعارضين، بمن فيهم "حزب الله" و"حركة أمل" وكتلة الجنرال عون...
إن ما يهم بكركي في الظرف الراهن والعصيب أن تبقى رائدة الوفاق بين اللبنانيين أجمعين من زاوية، وجودها كنقطة توازن في موازين القوى المحلية والعربية والدولية، والكل بمن فيهم الفاعليات الإسلامية والعرب، وإليهم المحافل الدولية المهتمة بلبنان، ألقوا رهانهم على البطريرك صفير حول التسوية المطلوبة بين بقاء الرئيس لحود او تنازله عن بعبدا. ولعل الايام المقبلة، سوف تضع بكركي في غرفة امتحان حقيقي لقدرته اللاهوتية على احتواء بؤر التوتر في لبنان، وفي مقدمها رئاسة الجمهورية.