شتاء سياسي يمطر وعوداً إصلاحية لا تتحقق
بوادر أزمة بين الحكومة وقضاة وصحافيي مصر
تحقيق يكتبه من القاهرةنبيل شرف الدين : في أجواء يسودها الاحتقان والترقب الحذر، وبالتزامن مع أزمة نادي القضاة مع الحكومة ممثلة في وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء الذي تعينه الحكومة ووصلت إلى حد إحالة أربعة من القضاة البارزين على التحقيق، بتهمة الإساءة إلى القضاء من خلال تصريحات أدلوا بها وأعلنوا رفضهم لمشروع قانون للسلطة القضائية تعتزم وزارة العدل تمريره في البرلمان، خلافاً لمشروع آخر قدمه مجلس إدارة نادي القضاة .
وبينما بدت تتشكل في الأفق بوادر أزمة جديدة بين الصحافيين والحكومة المصرية، يعقد رؤساء تحرير الصحف القومية والحزبية والمستقلة في مصر، والصحافيون النواب في البرلمان، ومجلس نقابة الصحافيين المصرية، اجتماعاً موسعاً في مقر النقابة السبت المقبل، بهدف تفعيل الاقتراحات التي طرحوها خلال اجتماعهم في مقر صحيفة quot;العربيquot; لسان حال الحزب الناصري، والتي يتصدرها تشكيل لجنة من شيوخ الصحافيين لطلب لقاء الرئيس المصري حسني مبارك لمناشدته إسقاط عقوبة الحبس في كافة قضايا النشر تنفيذاً للوعد الرئاسي الذي كان قد قطعه على نفسه قبل عامين، كما سيناقش المجتمعون أيضاً الضغوط التي يمكن تفعيلها لتحقيق مطالبهم، من بينها احتجاب الصحف عن الصدور، فضلا عن التنسيق مع منظمات المجتمع المدني المصرية، والمنظمات الحقوقية على الصعيدين الدولي والإقليمي .
معركة حبس الصحافيين
يأتي هذا التحرك إثر صدور حكم بحبس الصحافي عبد الناصر الزهيري لمدة سنة، لإدانته بتهمة سب وقذف وزير الإسكان السابق، وإلزام الصحافي المذكور إلى جانب صحافيين آخرين هما : يوسف العومي، وعلاء الغطريفي، وثلاثتهم من محرري صحيفة quot;المصري اليومquot;، بدفع مبلغ عشرة آلاف جنيه مصري كتعويض مؤقت للوزير السابق الذي رفع عشرات القضايا ضد الصحافيين في مصر، وبات يوصف في الأوساط الصحافية بلقب quot;عدو الصحافة الأولquot;، وكثيراً ما وجهت إليه انتقادات واتهامات حادة بالفساد وسوء الإدارة، حتى تم إقصاؤه بالفعل عن منصبه في التشكيل الوزاري الأخير .
وكان الصحافيون الثلاثة قد صدرت ضدهم من قبل أحكام بالحبس لمدة عام، غير أن المحكمة قبلت استئناف اثنين منهما مكتفية بتغريمهما، بينما قضت بحبس الزهيري، في ما تزامنت تلك الأحكام مع مرور عامين على وعد الرئيس مبارك بإلغاء عقوبة الحبس في قضايا النشر، لكن رؤساء تحرير الصحف الذين التقوا أحمد نظيف رئيس الوزراء أكدوا أنه لا يبدو متحمساً للدفع بمشروع قانون الصحافة إلى البرلمان لإقراره، ونقلوا عنه مهاجمته للصحافة المصرية، خاصة الصحف المستقلة التي تهاجم الحكومة والرئيس وتخوض في شتى القضايا السياسية التي تحجم الصحف القومية (الحكومية) عن الاقتراب منها، إلا لتتصدى للدفاع عن سياسات الحكومة .
وشكل الصحافيون المجتمعون لجنة تأسيسية بالتنسيق مع الصحافيين النواب بالبرلمان ونقابة الصحافيين لضمان عدم الالتفاف الحكومي على مشروع القانون وضمان تقديمه كما أقرته الجماعة الصحافية، واتفقوا على اتخاذ سلسلة متصاعدة من الإجراءات تبدأ بالاعتصام داخل مقر النقابة، وتنتهي باحتجاب كل الصحف عن الصدور .
صحافيون خلف القضبان
وسبق أن رصد تقرير أصدرته المنظمة المصرية لحقوق الإنسان سوء أوضاع الصحافة المصرية خلال العام الماضي، حيث تعرض الصحافيون لانتهاكات ومضايقات وملاحقات قضائية وأمنية، وانتهاكات وصلت إلى ذروتها حين تعرضوا للضرب، وانتهكت أعراض صحافيات أثناء تغطية المظاهرات الاحتجاجية يوم إجراء الاستفتاء الشعبي على تعديل المادة 76 من الدستور الخاصة باختيار رئيس الجمهورية، الذي قاطعته عدة أحزاب وحركات معارضة في مصر .
وتضمن التقرير بعض حالات استدعاء الصحافيين أمام النيابة العامة للتحقيق معهم بسبب كتاباتهم، كما تناول أبرز القضايا التي اتهم فيها صحافيون، ولا تزال منظورة أمام المحاكم أو صدر في بعضها أحكام بالبراءة، ومن أمثلة تلك القضايا قضية مجدي حسين رئيس تحرير صحيفة quot;الشعبquot; التي تصدر عبر شبكة الإنترنت بعد حجب الصحيفة الورقية إثر تجميد أنشطة حزب quot;العملquot;، والتي ظلت متداولة في المحاكم منذ شباط (فبراير) من العام 2004 وحتى نيسان (أبريل) من العام2005 حيث أصدرت محكمة جنايات القاهرة حكما ببراءته في القضية التي اتهمه فيها يوسف والي وزير الزراعة الأسبق بالسب و القذف .
كما أشار التقرير إلى قضايا الصحافيين أحمد عز الدين، وشقيق الطاهر، وفايز زيدان، وعبد الناصر علي، جميع هؤلاء الصحافيين وغيرهم صدرت بحقهم أحكام بالحبس وصلت إلى الحبس لمدة عامين، فضلاً عن غرامات مالية وصلت أقصاها إلى 20 ألف جنيهاً مصرياً .
معركة استقلال القضاء
ولعل المتتبع للشأن المصري الداخلي بوسعه أن يرصد معركة من الطراز التاريخي تدور رحاها سراً وعلانية، بين مجموعة، لم تعد قليلة، ممن باتوا يوصفون إعلامياً بالقضاة الإصلاحيين في مصر، وهم يرفعون راية quot;استقلال السلطة القضائيةquot; لكن بلا شك فإن نتائج هذه المعركة سوف تصب في اتجاه الدفاع عن العدل والمشروعية وسيادة القانون وحق الشعب في انتخابات حرة نزيهة، وفي التداول على السلطة ديمقراطيا وسلميا، وترسيم الحدود الفاصلة بين السلطات، مؤكدين أن القضاة ليسوا مجرد جمعية أو نقابة تسعى إلى تحقيق هدف فئوي أو مطالب خاصة بالقضاة وحدهم، لكنهم انطلقوا من كونهم نخبة من رجالات الأمة تشربت نفوسهم ـ بحكم مهنتهم السامية ـ احترام القانون وحب العدل والالتزام بالمشروعية .
كانت هذه الرسالة التي أراد أربعة من كبار القضاة في مصر إيصالها إلى كل ـ من يهمه الأمر ـ أنهم ماضون بإصرار نحو المطالبة بإقرار مشروع القانون الخاص بالسلطة القضائية الذي أعده quot;نادي القضاةquot; وهو كيان شبه نقابي ينتخب أعضاء مجلس إدارته من جموع القضاة، وليس مشروع القانون الحكومي الذي أقره quot;المجلس الأعلى للقضاءquot;، وصرح القضاة الأربعة للصحف والفضائيات برفضهم صراحة هذا المشروع الحكومي، وهددوا بتصعيد الأمر إلى حد التلويح بتسيير مظاهرة هي الأولى من نوعها للقضاة وهم يرتدون وشاح القضاء والأوسمة التي حصلوا عليها، وعلى الفور تعاطفت مع هؤلاء القضاة كافة ألوان الطيف السياسي في المعارضة، وبدا أن كل من اعتادوا الدفاع عن مواقف الحكومة قد أسقط في أيديهم، فليس بوسعهم مهاجمة القضاة وهم يصرون على مطلب مشروع وعادل، وإن كان هذا لم يقف حائلاً دون أن يهاجم بعض الصحافيين الحكوميين القضاة من زاوية التورط في العمل السياسي، واللهاث وراء شهوة الإعلام ولو كان ذلك على حساب هيبة القضاء كما يزعمون .
ومن هنا التقط النائب العام التصريحات التي أدلى بها القضاة الأربعة الكبار، وهم كل من المستشارين : محمود الخضيري رئيس نادي قضاة الاسكندرية، وأحمد مكي، ومحمود مكي، وهشام البسطاويسي نواب رئيس محكمة النقض .
وحصل النائب العام بالفعل على موافقة مجلس القضاء الأعلى بالتحقيق مع القضاة البارزين في ما وصفه القضاة بأنه محاولة لتخويفهم لمطالبتهم بالتحقيق في اتهامات بالتزوير في الانتخابات التشريعية الماضية وتمسكهم بالدعوة لمشروع قانون يكفل استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية،
وقبل أيام قال بيان أصدره مكتب النائب العام إنه رأى ضماناً للحيدة باعتبار النائب العام عضواً في مجلس القضاء الأعلى، وهو الذي طلب الإذن من المجلس للتحقيق مع المستشارين الأربعة بشان الأحاديث التي أدلوا بها لبعض الفضائيات والتي رأى المجلس أنها تشكل إهانة للسلطة القضائية وتشكيكا في نزاهة بعض أعضائها، فقد طلب من وزير العدل ندب أحد المستشارين لتولي مهمة التحقيق مع المستشارين الأربعة، وهو الأمر الذي أثار حفيظة قطاعات عريضة من القضاة في مصر .
وأخيراً
وبين معركتي القضاة والصحافيين مع الحكومة، وما تشهده مصر حالياً من حراك سياسي وصفه البعض بعودة السياسة إلى البلاد بعد موتها أو اختفائها، تبقى الكرة في ملعب النظام الحاكم في مصر، الذي يبدو أنه يتجه بدوره إلى التصعيد، وهو ما تشير إليه ملابسات ووقائع لعل أبرزها إصرارها على التحقيق مع المستشارين الكبار، وعدم الحماس لإقرار قانون الصحافة الذي يحول دون حبس الصحافيين بسبب كتاباتهم، وفي ضوء نتائج هاتين المعركتين ستتضح أمور كثيرة، ليس بعيدة عن مستقبل مصر، بل لعلها في صلبه وسوف تتأسس عليها أوضاع كثيرة، وإن كان التنبؤ بهذه النتائج لم يزل يدور في دائرة التكهنات والقراءات الشخصية لكل فريق من اللاعبين على الساحة المصرية الحبلى بعواصف ورعد وبرق في شتاء يمطر وعوداً إصلاحية لا تتحقق على أرض الواقع .















التعليقات