جنيف: السؤال الأبرَز الذي أطلّ برأسه بعدَ قرار حلّ مجلس الأمة الكويتي للمرة الثانية خلال سنة واحدة هو: هل دخلت الديمقراطية الكويتية في أزمة قد تُـهدد وجودها وتقذِفها إلى قارِعة الطريق العربية، التي تعجّ بالعديد من التّجارب العربية الديمقراطية، التي أجهزت عليها quot;الطّـبقاتquot; الأمنية - الاستخبارية العربية؟

السؤال يبدو مبرراً لسببن: الأول، أن العديد من المواطنين الكويتيين، الذين اكتَـوَوْا بِـنار كارثة تدهْـوُر أسعار الأسهم الأخيرة (معظم الكويتيين من حمَـلة الأسهم في البورصة)، لم يعُـودوا قادرين على تقبّـل استمرار الشّـلل الاقتصادي والسياسي في البلاد، بسبب الصِّـراعات المستمرّة بين البرلمان والأسْـرة الحاكمة، فهم يريدون حلولاً لمتاعِـبهم المالية، والعديد منهم (خاصة القبليين) لا يهتمّـون كثيراً، إذا ما جاءت هذه الحلول من سلطة ديمقراطية أو سُـلطوية.

والثاني، أن اتِّـهامات الشلل والمحسوبيات تنهمِـر الآن، أساساً على رأس مجلس الأمة المحلول، بدءً من أمير الكويت، الذي شنّ على النواب حملة عنيفة وغير مسبوقة في خِـطاب حلّ البرلمان، وانتهاءً برجال الأعمال الذين كانوا يقِـفون في البداية مع البرلمان في معركته مع بعض أجنحة السلطة، فإذا بِـهِـم اليوم، وبسبب الأزمة الاقتصادية، يجِـدون أنفسهم بدون أن يشاؤوا في زوْرق الأسْـرة.

أزمة واستغلال

مسألة الديمقراطية إذن هذه المرّة، دقيقة وحسّـاسة، على عكس المرّات السابقة، لأنها ترقص على إيقاع أوجاع اقتصادية حادّة، وهذا وضع يرجّـح أن تستغلّـه حتى الثّـمالة، الأجنحة السُّـلطوية في أسْـرة آل الصُّـباح، لمحاولة تطويع البرلمان مرّة وإلى الأبد، وهي ستفعل ذلك في وقت يُـعاني فيه البرلمان من مُـعضلات حقيقية خاصة به، يمكن تلخيصها بالآتي:

middot; يعيش مجلس الأمة منذ فترة أزمة هوية مدمِّـرة بين واقع تقليدي، يشدّه إلى دوره الحقيقي كمُـجرد مجلس قبَـلي لشورى آل الصباح، وبين كونه مؤسسة حديثة، يُـفترض أنها هي السُّـلطة العليا في البلاد. والصراع بهذا المعنى، ليس بين القبيلة والديمقراطية، بل في داخل القبيلة نفسها على المغانم.

middot; لا إمكانية لتغيـّر العلاقة الحقيقية بين البرلمان والدولة، إلا إذا ما بات البرلمان مُـمثلاً لمجتمع مدني مستقل، لا لرعايا هُـم موظفين لدى الحكومة (معظم المواطنين الكويتيين هُـم كذلك)، وهذا مستحيل، إلا إذا ما تمّـت خصخصة النفط نفسه.

middot; بيد أن المجتمع المدني الكويتي نفسه يُـعاني من مُـعضلات جمّـة. فالاستهلاك المنفلت من عِـقاله يُـشوِّهه، والتَّـجاذبات بين الدِّين وquot;البورنوquot; تُـمزِّقه، والصِّـراع لم يُحسَـم بين الحداثة والتقليد.. بين البحر والصحراء، وبين البدو والحضر وبين الاستقرار وفقدان مشاعِـر الأمن، بسبب الغزْو العراقي، وبين الحرية والانغلاق.. وبين الآباء والأبناء.

هذه المُـعطيات تشكِّـل في الواقع نقطة قوّة أسْـرة آل الصباح الأولى، ونقطة ضُـعف البرلمان القُـصوى، وهي تجعل الكويت بلا آل الصباح، كقوة جذب مركزية، تبدو كمجرد قبائل وطوائف متصارعة في حرب أهلية باردة ومشلّة. فما الحل؟

الملكية الدستورية؟

اللجوء إلى الانتخابات أثبت حتى الآن أنه مخرج عقيم. فالإنتخابات تنظم، ليحدث بعدها ما كان يحدُث قبلها: مُـجابهات واستجوابات تؤدّي إلى استقالات متكرّرة للحكومة، ثم في نهاية المطاف إلى حلّ المجلس والانتخابات مجدداً.

الحلّ الأمثل في الكويت، هو تطوّر الديمقراطية لتُـصبح ملكية دستورية تماماً. بيد أن هذا حل تاريخي وليس حلاً آنياً، كما تثبت ذلك تجارب الملكيات الديمقراطية في بريطانيا وإسبانيا والسويد والنرويج، التي احتاجت إلى قرون عدّة لإنضاج مَـلكياتها الدستورية.

الحلّ الآني هو في منطقة وُسطى بين اللاتوازن الفوضوي البرلماني - الحكومي الرّاهن، وبين النظام المَـلكي الدستوري، وبالتالي، بين السلطتيْـن، التشريعية والتنفيذية. كيف؟

ربَـما عبْـر مؤتمر وطني جديد، ينبثق عنه عقد اجتماعي - اجتماعي جديد، يتنازل فيه النواب والحكّـام عن مطالبِـهما القصوى، وصولاً إلى اتفاقات الحدود الدُّنيا في مجالات المشاركة السياسية والاقتصادية.

هذا الحلّ الأخير، ليس مستعصياً، إذ هو جزء عُـضوي من تاريخ الكويت أو وبالتحديد بتاريخ نشأة النظام السياسي الكويتي. فكما هو معروف، حين برَز الكِـيان الكويتي إلى الوجود في القرن السادس عشر، أولاً تحت إسم الكوت (القلعة) ثم الكويت، شذّ عن باقي الكِـيانات العربية في كونه حصيلة عقد تاريخي بين المحكومين الكويتيين، الذين كانت غالبيتهم من التجّـار، وبين الحكّـام من آل الصباح، الذين خوّلوا صلاحية إدارة شؤون الدولة الناشئة، بما في ذلك العلاقات الخارجية وتحصيل الضرائب، وهذا عنى أن الكويت كانت منذ نشأتها مَـلكية دستورية إلى هذا الحدّ أو ذاك.

ولذا، لم يكُـن غريباً أن يبرُز فيها أول برلمان منتخَـب بشكل مباشر في منطقة الخليج وأن يتمتّـع هذا البرلمان بصلاحيات نادِرة في المنطقة العربية، بما في ذلك إقالة رئيس الوزراء وتأكيد بيْـعة أمير البلاد بعد ترشيحه من قِـبل الأسْـرة الحاكمة.

نذكـّر بهذه الحقائق، لمجرّد الإشارة إلى أن الاستثناء التاريخي الكويتي في العلاقة بين الحاكِـمين والمحكُـومين، سيكون حاضِـراً في الأزمة الرّاهنة بين الطرفيْـن، وقد يدفع، كما في التّجارب السابقة، خاصة خلال الغزو العراقي، إلى احتمال تغليب التّـسويات على المجابهات، حتى ولو بدا أحياناً أن الأمور تتّـجه إلى التصعيد.

بكلمات أوضح: الصِّـراع القديم والجديد في الكويت، لا يدور حول مبدإ الملكية الدستورية، بل حول مَـداها، ليس حول سيطرة البرلمان على السلطة السياسية، بل حول حدود هذه السلطة، أساساً حِـيال مسألة الثروة النفطية وكيفية إدارتها، وهذه القضية الأخيرة، ستبرز قريباً وبقوة على السّـطح السياسي، مع عودة البحث في quot;مشروع الكويتquot;، المثير للجدل والخاصّ بتكليف الشركات الأجنبية بتحديث قطاع النّـفط الكويتي.

الحل والأسْـرة

على أي حال، حلّ مجلس الأمة، فجـّر أزمة جديدة لن يكون حلّـها هذه المرة كسابقاتها. فإما أن يتّـفق الحُـكّام والمحكومين على صيغة جديدة للمشاركة السياسية تكون ديمقراطية وحضارية في آن أو تكون الفوضى المشوبة بسُـلطوية السبعينيات والثمانينيات.

فهل الكويتيون قادرون على تحقيق هذه القنبلة التاريخية الجديدة؟ الكثير سيعتمد على طبيعة موازين القِـوى بين الأجنحة داخل أسْـرة الصُّـباح، وهي بالمناسبة أجنِـحة حقيقية لا مجرّد توزيع أدوار، وأيضاً على موقِـف الشباب الكويتي الحيَـوي.

سعد محيو