أحمد بن بيتور يتحدث لمراسل إيلاف

كامل الشيرازي من الجزائر: قال رئيس الوزراء الجزائري السابق أحمد بن بيتور، على أنّ بلاده تعاني من خمس أزمات خطيرة، ويضيف بن بيتور في هذا الحديث الخاص بـquot;إيلافquot;، أنّ هذه الأزمات متراكمة وكل واحدة تغذي أخرى وقد تؤدي إلى الأسوأ، ويكشف عن مبادرة سياسية بصدد إنضاجها، ويرى فيها وصفة ناجعة لعلل الجزائر المزمنة.

bull; الدكتور أحمد بن بيتور مرحبا بكم في ضيافة quot;إيلافquot;، ما هي قراءتكم للوضع الراهن في الجزائر؟

-في الحقيقة تعيش الجزائر حاليا خمس أزمات متتالية، كل واحدة متوازية مع الأخرى، أزمة سياسية تخص التسلط، أزمة اقتصادية تتعلق بإشكالية النمو في الجزائر ومدى قدرتها على استغلال إمكاناتها الطبيعية، وللأسف الشديد النتيجة هزيلة، أزمة أمنية رغم تراجع حدة العنف، إلاّ أنّ الإرهاب لا يزال موجودا وبالتالي لم نخرج من الأزمة نهائيا، أزمة ثقافية حول مفهوم الدين ومفهوم اللغات إلى آخره، وأزمة حاكمية لها صلة بطبيعة نظام الحكم، هذه الأزمات الخمس متراكمة وكل واحدة تغذي الأخرى، وبالتالي الخروج بنتائج لا يأتي سوى بنظرة شاملة تطال جميع الجوانب وليس إلى جزئياتها، مع الأسف الشديد ما نلاحظه الآن أنّ النظام الحاكم وهو نفسه في أزمة، ينظر إلى الأمور في جزئياتها، وليس له صورة واضحة إلى مستقبل واضح، وبدون تشخيص واضح للعلل الحاصلة، بلا توخي لاستيراتجية شاملة واضحة المعالم تأخذ بعين الاعتبار عامل التكامل بين الحلول، لأنّه يمكن للمرء أن يرى انفراجا في الأزمة الأمنية، لكن ذاك الانفراج لا يتأت إلاّ بالخروج من جميع الأزمات الأخرى المتشابكة مع بعضها.

bull; طرحتم مبادرة سياسية قبل سنتين، إلى أين وصلت الأمور، وهل تعتزمون تأسيس تشكيلة سياسية، أم ما زلتم مع إنشاء خلية تفكير تتقاربون عبرها مع شخصيات تشاطركم نفس النظرة والقناعات؟

-ما نلاحظه اليوم على صعيد منظومة الحكم، هو حالة من عدم الانسجام على مستوى قمة الهرم، فضلا عن تشتيت صفوف المعارضة، في وقت لا تقوم القوى السياسية بواجباتها، حيث هناك أحزاب في خدمة الرئيس وليس في خدمة مناضليها أو وطنها، وبالتالي فإنّ النظام مسيطر على هذه الآليات، وليس بالإمكان أن تحرز على أي نتيجة في ظل هذا الواقع، مثلا في 2004 حاولنا الترشح للانتخابات الرئاسية آنذاك، لكن جرى غلق جميع الأبواب، واللافت أنّ القائمين على النظام لا يسمحون بنشوء حزب إلا إذا تيقنوا من أنّ ليس له تأثير على تغيير منظومة الحكم، وأي تشكيلة لها قدرات للتغيير quot;ممنوعةquot;، وطبعا هذه الطريقة غير سليمة، لذا قام تصورنا على جلب المبادرة لآليات جديدة، والسعي لتجنيد الناس من خلال فضاءات متاحة كالأنترنيت، اليوتيوب، الفايس بوك.
فيما يخص تصوري للخروج من الأزمة، هو تصور شامل وكامل، الآن أنا أعمل على كيفية إيصاله إلى الناس، والاتصال بهم حتى يتم تحصيل أكبر قدر ممكن للنجاح منذ البداية، وبالتالي فضلت ترك الوقت المناسب لإطلاق هذه المبادرة، حيث أنّ الظرف كان غير موات مع تنظيم انتخابات قبل أشهر وهامش المائة يوم التي عادة ما تٌتاح أمام الفائز بالاقتراع لرؤية ما يأتي به من جديد، كما أنّ الطريقة التي جرى وفقها تغيير الدستور لم تسمح بالمشاركة في الانتخابات أو في الحياة السياسية، لأنّ نظام الحكم نفسه أغلق باب الانتخابات وباب المشاركة فيها، وعليه إن شاء الله في القريب العاجل سنخرج بتصورنا.

bull; امتنعت السلطات الجزائرية عن الترخيص لأي حزب سياسي خلال العشر سنوات الأخيرة، بالمقابل، جرى تفكيك عديد القوى الفاعلة، هل ذلك مؤشر على غلق الساحة اللعبة السياسية لصالح قوى الائتلاف الحاكم، وهل تتوقعون انفتاحا أم مزيدا من الانغلاق؟

-الأمور واضحة، الطريقة التي تغيّر بها الدستور، بدون نقاش، في جلسة خاصة، بدون إمكانية حتى حق طرح نقطة نظام، بدون أي مشاركة قوة فعّالة في البلاد، شواهد تؤكد أنّ quot;الجماعةquot; سائرون نحو انغلاق أكبر مما هو عليه الآن، من خلال السير في الطريق المعاكس للمسار الذي تمشي فيه الكثير من الدول، وهذه هي الإشكالية المطروحة، فالجزائر بحاجة إلى انفتاح، لأنها تدور في عالم مفتوح لا مغلوق، لكن إحساسي أنّه لن يكون هناك انفتاح، بل انغلاق أكثر فأكثر، وعلى هذه الحالة التي تعيشها البلد، ستحدث أزمات وأزمات، وكل ما تقع أزمة، سيقع غلق أكبر، ولا ينبغي أن ننسى أننا لا نزال تحت مفعول حالة الطوارئ منذ سنة 1992، أي أكثر من 17 سنة، رغم أنّ الدستور واضح وينص على إقرار حالة الطوارئ لظرف معيّن ولمدة معيّنة.

bull; توقعتم حدوث أزمات في الجزائر خلال المرة المقبلة، هل الأمر يتعلق بأزمات اقتصادية اجتماعية، أم أنّ الأمر سيتطور إلى مستوى سياسي؟

-في الوقت الحالي، نحن نعيش هذه الأزمات، بما في ذلك الخمس أزمات التي تحدثت عنها سابقا، فخريجو الجامعات ليس لهم أي فرصة للعثور على منصب شغل، أسعار المواد الأكثر استهلاكا سائرة باستمرار في منحنى مرتفع، لدينا تبعية مطلقة للمحروقات، وبالتالي فاقتصاد البلد متأثر بصعود وهبوط سعر برميل النفط، طالما أنّ 80 بالمائة من مداخيل الميزانية تأتي من المحروقات، فإذا انخفض سعر النفط إلى النصف، كما كان عليه الحال خلال العامين الأخيرين، فمعنى ذلك أنّ مداخيل الحكومة ستتراجع بأربعين في المائة، وهذا الانخفاض كبير، ويجرنا إلى الجزم بأنّ الجزائر تسير نحو أزمات تتفاقم أكثر وأكثر، وكل ما تفاقمت الأزمة، كلما يكون ردّ الفعل هو العنف، بحسب تصوري.

bull; يسوّق كثيرون لفكرة معاناة الجزائر منذ مدة ليست بالقصيرة من غياب quot;بديل وطني ديمقراطيquot; ما أورث فراغا رهيبا بحسب مراقبين، على مردودية المنظومة السياسية المحلية، هل ذاك وجده يفسر ضحالة الفعل السياسي الجزائري وعقم الأداءات بالإجمال؟

- لأنّه أولا النظام السياسي القائم لا يسمح بانفتاح سياسي يستوعب الناس، وهناك الكثير يخطئون، لأنه لا يمكنك ممارسة السياسة إذا لم تكن هناك مؤسسات سياسية، وهذه الأخيرة مغلقة، وأولاها الأحزاب التي لم تقبل الدخول في الصف، ففي الجزائر لا يمكنك تكوين حزب، إلاّ إذا كانوا موقنين تماما بأنّك سائر في الطريق التي يريدونها، وحتى منظمات المجتمع المدني الموجودة في الساحة اليوم، تابعة بصفة مباشرة أو غير مباشرة لشخصيات في الحكم، وبالتالي المؤسسات التي يمكنها ممارسة السياسة والتغيير غير موجودة، بالتالي لا يمكن لوم الأشخاص على أنهم لا يقومون بالسياسة، لا سيما مع تواصل حالة الطوارئ، وكيفيات تغيير الدستور والقوانين، حتى هناك فكرة يخطئ فيها كثيرون، وهي أنّ الجزائر تتمتع بانفتاح إعلامي، يجب أن نفهم جيدا أنّ حرية الإعلام مقصورة على الصحافة المكتوبة دون سواها من أجهزة الإعلام الثقيل، لكن لما تجد نفسك أمام ما سميته quot;فن تنظيم انتخابات تعددية من دون تغيير نظام الحكمquot;، حرية الصحافة المكتوبة، ليس لها أي تأثير بشأن تغيير النظام، في ظل بقاء الآليات الأخرى quot;تليفزيون وإذاعةquot; مغلقة مائة في المائة أمام أي صوت معارض، وهذا الأمر طالني شخصيا، فقد حضرت عديد الاحتفالات والمناسبات، وجرى تغييبي أمام المشاهدين رغم تواجدي فعليا، والمعروف أنّ تفعيل الناس ونقل انشغالاتهم يكون عبر التليفزيون، لأنّ الأشخاص الذين يطالعون الصحف هم في الغالب مثقفون، بينما باقي الأشخاص الذين يعانون من شواغل وانفعالات سياسية ليس لهم من طريق سوى التليفزيون، وحينما لا يستفيد هذا الجهاز الثقيل من الحرية، يجنح الناس إلى تعبير أقرب إلى العنف، والنظام لما رأى أنّ الحرية قد توصله إلى هذه المنعطفات، فضل أسلوب الغلق، وعندما نتحدث عن حرية التعبير في الإعلام بالجزائر، ندخلها ضمن خانة ضيقة جدا هي quot;الصحافة المكتوبةquot; التي تتوجه إلى فئة معيّنة من الأشخاص.

bull;يرى مراقبون للشأن السياسي الجزائري، أنّ هناك إشكالية خطاب سياسي في الجزائر، ما رأيكم؟

-صحيح هي إشكالية واضحة، طالما أنّ الخطاب هو تكوين رؤية أو نظرة حول راهن البلاد ومستقبلها والطرق للخروج للازمة التي تعيشها، اليوم الخطاب السياسي غير واضح المعالم، فئة تجنح إلى تغطية الشمس بالغربال كطريقة لإخفاء الحقيقة، وذاك ملحوظ في نشرات أخبار التلفزيون الحكومي، حيث أنّ اللحن الدائم quot;كل شيئ تمام وعلى ما يُرامquot;، بينما في زاوية المعارضة ليس هناك تحاليل من شأنها إعطاء بدائل، وهذه إشكالية ينبغي الخروج منها، لأنّ استقطاب الناس، يستدعي تسويق خطاب يحلل الوضع الآني ويأتي ببدائل، خطاب يستعرض ما هو كائن، ويتعرض إلى ما تمرّ به البلاد، من منعرجات ومآلات، بما يوضح الصورة سياسيا أمام الناس، وتكون لديهم خيارات واضحة إزاء التغيير السلمي المنظّم والمتكئ على أفكار وبرامج جديدة تأخذ بعين الاعتبار التوازن الموجود بين القوى، حتى تكون النتائج في المستوى، عدا هذا ليس هناك خطاب سياسي واضح المعالم، فالنظام الحاكم quot;ينمّق كثيراquot; رغم أنف الواقع، فيما تركّز المعارضة على شتم النظام، أكثر مما هي تأتي بحلول جديدة.

bull;أين تكمن الأزمة الحقيقية التي تعيشها الجزائر حاليا؟

-يمكن تلخيصها في جملة قصيرة، هي نوعية الحاكمية أو نظام الحكم، وهو ماض من فشل إلى آخر، وذاك راجع لكون مقاليد السلطة ظلت بين نفس الأيادي منذ استقلال الجزائر قبل 47 سنة، وكلما طل الزمن، كلما تضاءل عدد الناس الذين لديهم القدرة على السير في الطريق المستقيم، وأعبّر عن هذا الوضع مثل قفة مملوءة بالفواكه، وتبقى تأخذ منها الأشياء الجميلة، مع انقضاء الزمن لم يبق فيها سوى الشيء غير الجميل، والحل بالتالي يكمن في إتيانك بقفة فواكه جديدة، في الجزائر لا زلنا نسير بنفس القفة، لذا كلما تقدمنا في الوقت، كلما كان مستوى الحكام أضعف مما كان عليه في السابق.

bull;هل القضية متعلقة بالأجيال أم بطينة الرجال .. ؟

-فيها من كل شيئ، قضية الأجيال أمر آخر، فنفس الجيل الذي نصّب نفسه على رأس الحكم في 1962، هو المسيطر إلى غاية اليوم، وليس هناك جيل ثاني، لكن داخل ذاك الجيل بالذات، هناك قضية الأشخاص، حيث كانت النوعية السابقة أحسن.

bull; يدور الحديث حاليا عن quot;ترقية المصالحة إلى عفو شاملquot;، ما مدى قابلية هذا الاتجاه إلى التجسيد، وهل يعني ذلك أنّ المصالحة الوطنية بالصيغة المعمول بها منذ ربيع 2006، لم تؤت أكلها ؟

-نجد أنفسنا في مواجهة مترادفات، لأنّه جرى الحديث عن وئام مدني، ولم يكن هناك تفسير، ليتم لاحقا الخوض في quot;المصالحة الوطنيةquot; واليوم فيه إشارات إلى quot;العفو الشاملquot; يعني مترادفات ليس إلاّ.
اسأل أي شخص في الجزائر سواء كان داخل الحكم أو خارجه، حول الفرق بين الوئام المدني والمصالحة الوطنية والعفو الشامل، هي برأيي عدة أوجه لعملة واحدة، بالمقابل، هناك تجارب في جنوب إفريقيا وأمريكا اللاتينية وبلدان شرقية، نلاحظ كيف الدول هناك تعاملت مع قضية العفو والتوبة والنسيان، هنا في الجزائر، ليس هناك لا عفو ولا توبة ولا نسيان، إلاّ مجموعة مصطلحات متشابهة بدون توضيح للسياسة العامة، الآن نتكلم عن العفو الشامل، ما هو هذا العفو مقارنة بالمصالحة الوطنية؟ والمصالحة بين من ومن؟ إلى حد الآن ليس هناك وضوح.

bull; لا يزال القطاع السمعي البصري في الجزائر مغلقا رغم كل المناشدات، كما لا تزال حالة نظام الطوارئ سارية المفعول للعام السابع عشر على التوالي، هل تتوقعون أن تنهي السلطات الفيتو المزمن حول المسألتين؟ وتسير باتجاه انفتاح إعلامي وسياسي وحرياتي أكبر؟

-صعب إدراك ما في رؤوس من يتواجدون في الحكم، وما هي القرارات التي سيتخذونها وماذا سيفعلون خلال المرحلة المقبلة، أرى أنّه لو ننظر إلى تطور نظام الحكم ونوعية الحكام، نحن سائرون باتجاه انغلاق أكبر، ولا أعتقد أنّهم سيتراجعون عن حالة الطوارئ أو الترخيص للأحزاب، ولا أظن أنّ الجزائر ستتأثر بالانفتاح الحاصل في دول الجوار، لا سيما وأنّ الجزائر ليس لها مشكلة في تمويل اقتصادها، وذلك راجع لريع المحروقات، وليس للدول المجاورة من ضغط تمارسه، اللهم إلا إذا تم ذلك عن طريق حكام الجزائر أنفسهم، لكن أستبعد ذلك، طالما أننا خلال العشر سنوات الأخيرة لا زلنا ندور في نفس نظام الحكم، والرئيس بوتفليقة أكّد عدم استعداده لفتح قنوات إذاعية وتلفزية، وصرّح بكل بساطة:quot;كيف يمكنني منح التليفزيون لأناس يهاجمونني من خلالهquot;، ليبقى الانفتاح الوحيد في الجرائد، ما يجعل مركز الجزائر في مجال حرية التعبير مقلق، حيث تتواجد في المؤخرة.

bull; quot;الحرّاقةquot; كلمة مقلقة لجيل جديد من آلاف الشباب اليائس صاروا يعبّرون عن أنفسهم بالفرار نحو الشاطئ الآخر، هل المشكلة كامنة في عدم تمكن السلطات من امتصاص هذه الطاقات الشبانية المهدورة، أم المشكلة أخطر ولها صلة بمسألتي الهوية والانتماء؟

-لما نرى طبيعة الشباب quot;الحرّاقةquot; نجدهم في الغالب، ممن عجزوا عن نيل منصب شغل، وبالتالي إشكالية الحرّاقة تتعلق أساسا بالنمو الاقتصادي والمشاكل الاجتماعية في الجزائر، لكن المشكلة تكمن في تعامل الحكومة مع هؤلاء الذين خاطروا بأنفسهم وقد يموتون، وفي غالب الظنّ يموتون، فهي تقوم بمحاكمتهم لأنهم سعوا إلى الخروج بوثائق غير رسمية، فأي حكومة كهذه تقدم على معاقبة المهاجرين السريين، بدلا من معالجة وضعياتهم بمنحهم مناصب شغل وتحسين حالاتهم، والاعتراف بالتقصير المُرتكب في حقهم، لكن السلطات ترتضي العكس، وتنفي وجود مشاكل، كما تكذّب وجود فقراء وبطالة ووو في الجزائر، وتحرص على معاقبة الشباب quot;الحرّاقquot; وإدخالهم إلى السجن، يعني فيه إشكالية من نوعين: الأولى تمس الحيثيات التي تدفع الشخص إلى المغامرة، والثانية معالجة الشخص الذي حُكم عليه وهو مغامر، وفي الاثنتين لسنا في الطريق السليم، وهذا الاتجاه لن يشجّع سوى (الحرّاقة)، خصوصا مع عقلية الجزائريين وما يُعرف بـ(النيف) فهم يقابلون الردع الحاصل بالإمعان في الهجرة وعدم المبالاة بالعواقب.

bull;سؤال ملح يتكرر دائما، هل الخلل في الجزائر يكمن في أنظمة التسيير، أم فيمن يقوم بالتسيير؟

-في أنظمة التسيير أساسا، وفيمن يقوم بالتسيير معا، لأنّ أنظمة التسيير تتماشى مع نوعية من الكفاءات، لما تكون الرداءة في أنظمة التسيير، تكون الرداءة في المسيرين، ولما تكون النجاعة في أنظمة التسيير، تكون الكفاءة في المسيرين، هذه العلاقة طردية ومترابطة، أظن أنّ نظام الحكم هو الذي لا يسير في الطريق المطلوب، حيث يتم استصدار قوانين بتسرع رهيب، بدون تفكير، بدون إشراك من سيطبق عليهم تلك القوانين، لو نأخذ مثالا فقط، التغيير الأخير في قانون الموازنة التكميلي، لن أتكلم في حق الحكومة بالتشريع ذاك حق لا جدال فيه، ولكن كيفية هذا التشريع، فلما تتحدث حكومة عن متعاملين اقتصاديين، وتشرّع في حقهم، تقوم بدعوتهم للنقاش ودراسة مدى تجاوبهم مع القانون المراد إدراجه، وإخطارهم بطبيعة المشكلة الموجودة ومدى استعداد المعنيين للإسهام في حلها، ويكون هناك انسجام، فعندما تطبّق القوانين يكون هناك اقتناع لأنّه جرى إشراكهم في تحضيرها، لكن فرض مسار العمل المالي والاقتصادي بقوة القانون، لم تعد هناك شراكة بين الدولة والمتعاملين الاقتصاديين، وهو ما يفسر كل الوضع الراهن الذي نعيشه.

bull;حذرتم من إمكانية حدوث فضائح مالية جديدة، على أي أساس تبنون هذه التوقعات؟

-كل يوم نرى فضائح، لما تنظر إلى النظام الجزائري، على مستوى السلطة، هناك من جهة quot;تسلطquot; ومن جهة ثانية ما يُعرف بـquot;النظام الإرثيquot;patrimonialiste وهو ليس بالوراثي أو الموروث، وهو نظام يكون فيه زعيم يدور حوله جماعة يتنافسون للاستفادة من امتيازات يمنحها لهم القائد، وينظروا إلى المجتمع ككل على أنّه ما دون المستوى المقبول، وبأنّه كذالك غير قابل للعمل السياسي، لذا يتعزز ذاك التسلط الذي يقمع أي قوة مضادة، وبالتالي لما يكون تسلط وإرثية، يكون فساد السلطة، ولما يكون هناك ريع ونهب، يكون الفساد المالي، ولما تجد في مكان ما فساد السلطة وفساد المال، هذا ينتج فسادا مفتوحا في جميع مؤسسات البلاد، سواء تعلق الأمر بالمجموعات المملوكة للحكومة، أو مجموعات القطاع الخاص، وهذا الواقع يفرز دولة عاجزة، هذه الأخيرة ننظر إليها بخمس عوامل، الأول: هل هناك دولة القانون؟، العامل الثاني يتعلق بالقوة الردعية للإدارة، وهنا نقصد قدرتها على تطبيق القوانين بحذافيرها، وتضمن حماية الأشخاص والممتلكات، العامل الثالث قدرة تنظيم الاقتصاد، العامل الرابع مصداقية المؤسسات، والعامل الخامس هو مكانة المجتمع المدني وبخاصة الفئة المتوسطة في نظام الحكم كعمود فقري للدولة، لما ننظر إلى كل هذه الخمسة عوامل، نجد أنّها ناقصة في الجزائر، وبالتالي فإنّ الأخيرة تتواجد الآن في خانة quot;الدولة العاجزةquot;، ولما تكون مظاهرات واحتجاجات عنيفة، تتجلى مظاهر عدم القبول عن النظام، فتتمظهر كدولة عاجزة، واحتجاجات من هذا النوع تقود إلى دولة مفلسة.
أعتقد أننا الآن ندور في حالة الدولة العاجزة، ونسير نحو الدولة المفلسة، يوم لا يكون هناك قدرة كافية لإنتاج للبترول والغاز، بما يسد حاجيات ميزانية الدولة وطلبات ميزان المدفوعات مع الخارج، وبالتالي تجد نفسك في دولة تمشي على الريع، من دون إمكانيات لأنّها غير موجودة، في تلك الحالة سنتجه لقدّر الله إلى دولة مفلسة.

bull;في نظركم.. هل حقق البرنامج الإنمائي (2001 ndash; 2009 ) أهدافه في الجزائر؟ وهل سيكون أفق الخطة التكميلية للسنوات الخمس القادمة مغايرا لما سبق، في ظل سياسة المراهنة على نفس الوجوه؟

-لما نتكلم عن البرنامج الإنمائي، نتحدث عن النفقات الحكومية في الهياكل القاعدية، وهذه لا يمكن أن تبني عليها النمو الاقتصادي، بل هي آليات لتحضير هذا النمو، الذي يتأت بالاستثمار في قطاع الإنتاج سواء في البضائع أو على مستوى الخدمات.
اليوم نلاحظ أنّ هناك استثمارا كبيرا في الهياكل القاعدية من دون استثمار في القطاع المنتج، وبالتالي ليس لذلك فائدة مباشرة على المواطنين، في صورة ذاك الشاب العاطل عن العمل في مقتبل العمر، المنحدر من بلدة صغيرة، ويجد أمامه طريقا سريعا تجوبه أفخم السيارات، ما هي الفائدة التي يجنيها هذا الشاب.
لا يمكن القول بإنجاز الحكومة لاستثمارات، لأنّه كانت فيه بحبوحة متأتية من البترول، وما قيل عن تشييد هياكل قاعدية بممارسات ورشاوى يعلمها العام والخاص، ويسمون ذلك quot;تنمية اقتصاديةquot;، بالعكس هي ليست كذلك، وأي تنمية ينبغي أن تكون ضمن خطة شاملة، تخصص في فترة للاستثمار في الهياكل القاعدية، تليها مباشرة للتكامل في الاستثمارات المنتجة على صعيدي الخدمات وحركية البضائع.

bull; تمتلك الجزائر اليوم احتياطي صرف كبير، بالإضافة إلى تدني محسوس في مستوى المديونية، لكن هناك تفاقم في الفقر وزيادات مهولة في أسعار المواد الأكثر استهلاكا، ماذا يعني كل هذا ؟ وكيف يمكن الارتقاء بالاقتصاد الجزائري ؟

-أنا أقول أنّ الجزائر تخصصت في تبديل مخزون غير قابل للتجديد وهو البترول في باطن الأرض، إلى مخزون قابل للتبخر وهو العملة الصعبة في الخارج، الإشكالية المطروحة أنّه يتم تخصيص جزء من العملة الصعبة لتمويل ميزان المدفوعات الميزان التجاري وميزان الخدمات وميزان رأس المال، لكن لما يتجاوز ذاك المستوى، المفروض ثلاثة أشهر إلى ستة أشهر من الاستيراد، مثلا إذا نستورد 40 مليارا في السنة، يكون عندك مخزون 20 مليارا كاف تماما، ما فوق ذلك ليس له أي فائدة أساسا للبلاد، فهو مخزون مطروح في الخارج، لا يستفيد منه الجزائري بأي شيئ حتى في ظل ما يُقال حول نسبة فائدة معينة، فما جدوى زيادة احتياطي الصرف من 124 إلى 130 مليار دولار، ما وراء ذلك؟ ماذا سينفع الجزائريين؟

عدا استخدام العملة الصعبة في عمليتي تصدير واستيراد تسهم في تطوير الاقتصاد المحلي وإنتاجيته، فالجزائر تتخصص في تصدير الثروة واستيراد الفقر، لأنّ الحاصل أنّها تصدّر مخزونا غير قابل للتغيير على حساب الأجيال القادمة، وتستورد كل ما هو قابل للاستهلاك، بينما هناك إمكانيات إنتاج هذه السلع، ولو نعود إلى قانون الموازنة التكميلي، والتدابير التي اتخذت لإنقاص فاتورة الاستيراد، معنى ذلك أنّها ستنقص تمويل المواطنين، إذا كان طبعا بديل منتج في الجزائر يتولى تعويض ذاك الاستيراد، لأنّ تقليص رقعة الأخير يُفترض أن تواكبه سياسة إنتاج البديل داخل الوطن، فنحن نستورد السكر والزيت والحبوب بنسب كبيرة، إذا نقلص من جلب هذه المواد، من أين نحصل عليها؟ بالتالي الحكمة في خلق آلة منتجة، وعدم ترك مخزون العملة الصعبة يتراكم في الخارج.

bull; ألا ينجم عن إيداع قيمة ضخمة من الأموال الجزائرية في البنوك الأمريكية خسائر بالنسبة الجزائر؟ هل يمكن استرجاعها بسهولة وقت الحاجة ؟ وفي حالة حدوث أزمة بين البلدين، كيف سيكون مصيرها؟

-الجزائر ليس لها مسيرين مباشرين لاحتياطها المالي في الخارج، حيث تضعه بصيغة مؤمنّة على مستوى الخزينة الأمريكية وتستفيد لقاء ذلك من نسب فائدة بسيطة، المشكلة أنّ الجزائر ليس لها كوادر قادرة على تسيير السوق المالية، وهو ما جعل الدولة تفضل أضعف الأيمان بطرح الاحتياطي كسندات لدى الخزينة الأمريكية، وهي أموال مضمونة لعدم الحاجة إليها أساسا.

bull; أزمة المال الكونية طالت اقتصاديات كبرى الدول، لكنّ المسؤولين في الجزائر ظلوا يصرون على أنّ بلادهم في منأى عن هذه الأزمة، ما رأيكم؟

- في الحقيقة، هم اعترفوا بذلك مؤخرا بعدما ظلوا ينكرون ودلالة ذلك واضحة في تراجع المداخيل، لذا جرى اتخاذ إجراءات ردعية، وتمّ فرض تدابير على أشياء ليست لها علاقة، فلو ننظر في قانون الموازنة التكميلي لهذا العام، جرى إلزام المصارف بعدم منح قروض الاستهلاك، علما أنّ منح بنك لقرض أو عدم منحه لا يدخل ضمن نظام القانون إياه، بل هو يندرج ضمن نظام تسيير البنوك والهيئة المشرفة quot;البنك المركزيquot; ولا دخل للحكومة بالأمر.

bull; يجمع الخبراء على أن النجاح الاقتصادي يقوم على ضرورة وجود علاقة تكامل بين النظامين السياسي والاقتصادي، ما هو حال هذه العلاقة في الجزائر؟ وهل يمكن إحداث إصلاح اقتصادي في ظل بقاء نفس النظام السياسي؟

-ذاك متعلق بما أشرت إليه آنفا حول الخمس أزمات المتشابكة، والتي لا ينفع معالجة إحداها دون البقية، لكن ما أشرتم إليه متصل بنقاش طويل ثار في السابق، فكوريا الجنوبية والشيلي نجحتا بالدكتاتورية، ولكن بالمقابل، هناك دكتاتوريات فشلت، وذاك يمس كل دكتاتوريات الوطن العربي وإفريقيا، لأنّه ليست الدكتاتورية من ستجلب النجاعة الاقتصادية، بل تتولد الأخيرة عن سياسات واضحة المعالم، ثم أنّ العالم يتغير، وكل أزمة تظهر تطال الجميع على غرار أزمة المال الكونية، ومخرج أي دولة يكمن في انخراطها وتلاحمها وانخراطها في اقتصاد شامل، ولعلّ الفرق بين دكتاتوريات إفريقيا ودكتاتوريات جنوبي شرق آسيا، يكمن في قيام الأخيرة بإبرام تحالفات بين الحكومات والقطاع الخاص، وعلى الأقل كانت هناك ديمقراطية في اتخاذ القرار الاقتصادي، عكس ما يحدث عندنا.

bull; لا تزال التباينات بشأن حقيقة النمو والبطالة في الجزائر سيدة للموقف، حيث تقدم الهيآت الدولية أرقام مغايرة لتلك التي تعلنها الحكومة الجزائرية، على أي أساس تبنى هذه النسب؟

-فيما يخص الأرقام في الجزائر، مثلا حصيلة ميزان المدفوعات المُسيّر من طرف البنك المركزي، لسنة 2008، تصدر في سبتمبر أو أكتوبر 2009، أي بتأخير تسعة إلى عشرة أشهر، بينما لست أدري من أين تخرج الحكومة بأرقام البطالة والنمو الاقتصادي في شهر يناير-كانون الثاني (..)، الأجدى بمن يريدون تقييم معدلات البطالة في الجزائر، إنجاز تحقيقات ميدانية تشمل عينات لمعرفة ما إذا كان الأشخاص عاطلون أم لا، والمثير هو قيام السلطات، بإقحام الجميع ضمن إحصائياتها الخاصة بنسب العمل، بما في ذلك أولئك الشباب الذين يعملون ضمن الشبكات الاجتماعية، وطبعا التلاعب بالأرقام يحصل بطرق شتى، لكن ذلك لا يخدم القائمين على اقتصاد البلاد، فالأرقام غير الصحيحة تؤدي إلى الإفلاس، وليس الحرص على الواجهة من سيؤدي إلى غير ذلك.

bull; بالنسبة للاستثمار الأجنبي والعربي في الجزائر، لا يزال مراوحا لمكانه، إلى ماذا يعود ذلك بنظركم؟

-نشير إلى قضية أولية، أنّ أي بلد يراهن على تنمية اقتصادية، يحفز متعامليه الوطنيين على الاستثمار في وطنهم قبل الاستثمار في الخارج، اليوم عندما نتكلم عن مناخ الاستثمار، المشكلة أنّ الأبواب ليست مفتوحة لا للوطنيين ولا للأجانب، وأيضا هناك عدم وضوح المعالم، فأي متعامل يريد التخطيط لمشروع بعيد المدى، وتهمه ديمومة القوانين وارتكازها، وكذا وضوح العلاقة مع الإدارة، هذه ثلاثة عوامل مفتقدة، وليس هناك إدارة مشجعة للاستثمار تبعا لافتقاد آليات متخصصة في الاستثمار، وكذا بنوك أعمال وصناديق استثمار، وذاك غير موجود.

bull; هل يحتمل الوضع الاقتصادي الجزائري حاليا دخول البنوك الإسلامية إلى الميدان؟ وما هي الايجابيات التي ستضيفها هذه البنوك؟

-لا أرى بوجود بنك إسلامي وغير إسلامي، فالبنوك هي نفسها، وما يتردد محض اصطلاحات، فنسبة الفائدة المطبقة اليوم لا ينطبق عليها الربا بتاتا، وطبعا دخول بنوك إسلامية إلى الجزائر شيئ إيجابي خصوصا مع رغبة متعاملين في ذلك، رغم العقد الموجودة على صعيد التعامل مع البنوك الكلاسيكية، رغم أنّ نسبة الفائدة المعمول بها في البنوك quot;الإسلاميةquot; وquot;الكلاسيكيةquot; هي ذاتها.

bull; كثير من متتبعي مسار الدكتور أحمد بن بيتور، يتساءلون إن كان سيلعب دورا سياسيا في المرحلة القادمة، وهل ستكون هناك مفاجآت من طرفكم؟

-مع الأسف، الآن العمل السياسي المباشر غير مُتاح، وبالتالي نميل إلى أن نتموقع كقوة اقتراح، ولدي تصور سياسي بآليات جديدة أشتغل عليها، ولما تكون الظروف ملائمة، سأخرج به إلى الواجهة.