أجرى المقابلة گراهام فولر (*)
&
&
ليس بوسع أكثر المخرجين عقلانية وصرامة مقاومة النشوة والذهول عندما تستدير كاميرته نحو المرأة التي يّحب. هكذا كانت هي مشاعر غودار حين كان يصور حبيبته وزوجته آنّا كارينا. واليوم حين يفكر المرء في أفلام جان لوك غودار يتشكل وجه أنّا كارينا على الفور أمام ناظريه، فحضورها يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأفلامه. ومثلما يقول ديفيد تومسون في كتابه (المعجم البيوغرافي للفيلم) من أن عمل غودار مع آنّا كارينا هو ذروة عمله الفني التي استطاع أن يحرز من خلالها وميض المشاعر الذي ظل ينير بقية أفلامه.
آنّا كارينا ممثلة ومخرجة وسيناريست وروائية دنماركية ولدت عام ١٩٤٠ وأمضت الكثير من حياتها العملية في فرنسا حيث سافرت إلى باريس وعمرها سبعة عشر عاماً. زواجها من المخرج الفرنسي جان لوك غودار والعمل معه، كانا بمثابة مصدر
روحي له حقاً. فقد أثمر عمله المشترك معها سبعة أفلام روائية من إخراجه. وهي: (الجندي الصغير ١٩٦٠، المرأة هي المرأة ١٩٦١، حياتي التي ينبغي أن أحياها ١٩٦٢، فرقة الغرباء ١٩٦٤، Alphaville ١٩٦٥، بيير المجنون ١٩٦٥، صنع في الولايات المتحدة ١٩٦٦). تلك الأفلام التي كانت تهتز وتتأرجح بتوتر بين العقلانية المتصلبة والعنيدة لغودار والأنوثة الشاعرية المتسامية لكارينا.
مشاهدة كارينا وهي تقوم بأداء رقصتها وتدور حول طاولة البليارد في فيلم (حياتي التي ينبغي أن أحياها)، أو الرقص غير المكترث مع كلود براسير وسامي فراي في فيلم (فرقة الغرباء) يشي بممثلة موسيقية بالفطرة، فضلاً عن قدرتها على ضخ الفيلم بحزن مثير منفصل كما في فيلم (Alphaville) أو بميسمها الزئبقي الخاص كما في فيلم (بيير المجنون ).
لم يقتصر عمل أنّا كارينا على جان ـ لوك غودار فحسب إنما عملت أيضاً مع مخرجين آخرين لعل أبرزهم أغنيس فاردا، جاك ريفيت، لوتشينا فيسكونتي، جورج كيوكر، أندريه دالفوكس، رينر فاسبندر، راؤل رويز وسواهم.&
وإضافة إلى موهبتها كممثلة تمتلك كارينا اهتماماً بالكتابة أيضاً فقد أنجزت أربع روايات هي على التوالي: "العيش معاً" ١٩٧٣ الذي حولته فيلماً قامت باخراجه وبطولته. ثم "مدينة ذهبية" ١٩٨٣، "أنت لا تشتري الشمس" ١٩٨٨ و "فرصة في وقت متأخر" ١٩٨٨.&
كما أنها أصدرت في عام ٢٠٠٠ ألبوم لأغانيها الرخيمة النغمات بعنوان (تأريخ الحب). وقد قام جوناثان ديمي في عام ٢٠٠٢ باستخدام أغنيتها الخاصة بها في فيلمه المميز "حقيقة تشارلي" الذي هو بمثابة وفاء للموجة الجديدة للسينما الفرنسية.
تزوج غودار وآنّا عام ١٩٦١ وتطلقا عام ١٩٦٥، إلا أن الأفلام السبعة التي أنجزاها معاً بقيت مثل أيقونات تقاوم ويلات الزمن. في هذه المقابلة الذي أجراها معها الناقد السينمائي البريطاني گراهام فولر تصف أنّا كارين لقاءها الأول بغودار.
&
نص المقابلة
&
گراهام: ما هي ذكرياتك عن نشأتك الأولى في الدنمارك؟
آنـّـا: نشأت في البدء مع جدي وجدتي، وحين توفيت جدتي، وكان عمري حينها أربع سنين، عدت لأعيش مع والدتي. لقد رأيت والدي مرة واحدة فقط حين كان عمري حوالي أربع سنين ونصف أو خمسة سنين. لا أعرف سبب قطيعتهما وعدم قدرتهما على البقاء معاً. عموماً، أعتقد أنني كنت فتاة صغيرة سعيدة بطريقة ما. كنت أهتم كثيراً بالرياضة، وفي إحدي المرات كنت أعدو وكسرت ذراعي اليمنى. حينها قال لي الجميع:"لا تقلقي، ستكون ذراعك على ما يرام في غضون سنوات قليلة.". على كل حال، بدأت العدو ثانية فكسرت ذراعي نفسه مرة أخرى، فذهبت هذه المرة إلى المستوصف فقالت لي الراهبات هناك:"أوه، لقد تم تجبير ذراعك بشكل سيء للغاية وكدت يمكن أن تبقي عاجزة لبقية حياتك. ولكن يمكننا الآن علاجها بطريقة صحيحة". ينبغي القول أنهن فعلن ذلك حقاً ولم تعد تؤلمني ذراعي منذ ذلك الوقت.&
&
گراهام: وكم كان عمرك حينها؟
آنـّـا: اثنا عشر عاماً. لقد استغرق علاج ذراعي نحو عام ونصف العام وحينها صرت كسولة جداً. أخبروا والدتي أنني لن أستطيع الذهاب إلى المدرسة، وقد أعجني ذلك كثيراً، لكنني بدأت أدرس وأدرس وقمت بأداء امتحان القبول في مدرسة الموسيقى وتفوقت على جميع المتقدمين. يومها لم يتمكن الأساتذة من فهم ذلك. قالوا ربما أنني غششت في الامتحان. لذلك ذهبت إلى المدير وقلت له:"سأترك المدرسة لأن الأساتذة يقولون أنني غششت". قال لي المدير بأنهم سيأخذوني ثانية إن أنا غيرت رأيي لكنني لم أفعل ذلك.&
حصلت على عمل وأنا في سن الرابعة عشر. اشتغلت عاملة مصعد في مخزن كبير شبيه بمخزن هارودز، وكان عليّ أن أقول للزبائن "الطابق الأول أحذية.. الطابق الثاني كذا..".. وهكذا. كان ذلك بمثابة كابوس بالنسبة لي لأنني أردت أن أصبح ممثلة وليس عاملة مصعد. كان يجب أن يصبح عمري أحد وعشرين عاماً لكي أتقدم لمعهد التمثيل، &وانتظار سبع سنين هو وقت طويل. كان جميع أولئك الرجال المسنين يحاولون لمسي
ومعاكستي في المصعد طوال الوقت. وقد كرهت ذلك. لذا قد توقفت عن الذهاب إلى العمل بعد عدة أسابيع. وكنت أتجول قرب ميناء كوبنهاگن طوال النهار وأذهب إلى البيت كل مساء في وقت محدد. بعث مدير المخزن بالطبع برسالة إلى والدتي، حينها سألتني:"وكيف هو العمل اليوم؟" أجبتها:"عادي، أصعد وأنزل المصعد كل يوم مع كل أولئك الزبائن الذين لا أحبهم". فغضبت بشدة وبعثتني ثانية إلى المخزن في اليوم التالي. سألني مدير المخزن عن سبب عدم رغبتي في العمل أجبته أنني أريد أن أصبح ممثلة. قال لي أنك فتاة متغطرسة وقذف بي إلى الخارج. وهكذا كان عليّ البحث عن عمل من جديد. في أحد الأيام حين كنت أسير في الشارع أوقفني رجل وسألني إن كنت أريد أن أعمل اختبار تصوير لفيلمه الأول. قلت:"نعم، لكن ينبغي أن تطلب ذلك من والدتي أولاً لأنني قاصرة". في ذلك الوقت إذا كان عمر الفتاة ٢١ عاماً فهي لا تمتلك الحق في الكلام أساساً. وافقت والدتي وعملت ذلك الاختبار مع فتيات أخريات وقد اختارني للدور الرئيسي في الفيلم. وقد لعبت الدور الرئيسي في في فيلم (الفتاة والحذاء) والذي نال جائزة في مهرجان كان السينمائي بعد خمس سنوات.
&
گراهام: وعن أي شيء كان يتحدث الفيلم؟
آنـّـا: كان يتحدث عن فتاة لديها موعد غرامي مع صديقها لكنها كانت تشعر بعدم الارتياح لأن حذائها القديم ليس جميلاً بما يكفي. لذلك اشترت حذاءاً جديداً بكعب عال لكنه كان يؤذي قدمها. وبعد ذلك صار حذائها القديم يرقص خلفها فارتدته ورمت بالجديد في القناة. في الشهور الثلاثة الماضية ذهبت لمهرجان بعض أفلامي في كوبنهاگن وهناك قابلت الفتى الذي لعب دور صديقي في الفيلم وكان لقادً مؤثراً حقاً.
&
گراهام: كيف عرفت مبكراً أنك كنت تريدين أن تصبحي ممثلة؟
آنـّـا: لقد بدء ذلك حين كنت صغيرة جداً. أخبرني جدي فيما بعد أنني كنت أغني أغنية "ليلي مارلين" حين كنت طفلة. بعد ذلك كنت أشاهد أفلاماً كثيرة أغلبها أفلام أمريكية موسيقية.
&
گراهام: من كان ممثليك المفضلين؟
آنـّـا: كانت ممثلتي المفضلة جودي گارلاند لأنها كانت تغني وترقص. كذلك أحببت آﭬا گاردنر، أديث بياف وتشارلس ترينت.
&
گراهام: كيف انتهى بك المطاف أخيراً في باريس؟
ج: بعد عملي في الفيلم حصلت على عمل عند رسام لأنني كنت أمتلك شيء من الموهبة في الرسم. لم أجني الكثير من المال لكن ذلك الرسام كان &يعرف الكثير من الناس وقد ساعدني في الحصول على عمل إضافي في بعض الأفلام الدنماركية الرديئة. كنت أتقاضى مائة كرون يومياً تقريباً وهي أكثر مما كنت أتقاضاه في عمل شهر كامل مع الرسام. لذلك كنت أقوم بانجاز العملين معاً. لكن بعد فترة بدأت المشاكل في البيت لأن والدتي &انفصلت عن زوجها الأول لتقيم علاقة مع أحد أفضل أصدقائه والذي بدأ يضربني. انتقلت للعيش مع جدي حينما كنت في السادسة عشر من عمري، لكنني لم أستطع الانتظار أكثر لأصبح ممثلة لذا سافرت إلى باريس. كان لدي فستان واحد وحذاء واحد فقط وحقيبة سفر صغيرة وليس لدي أي مال. لكن راهباً في كنيسة في الشانزليزيه ساعدني للعثور على غرفة قريبة من الباستيل.
&
گراهام: وكيف تمكنت من تدبير لقمة العيش؟
آنـّـا: كنت أرسم في الشارع. لم أكن على أحصل على المال الكافي لكنني استطعت الحصول على رغيف من الخبز بحجم سبع سنتيم. كنت نحيفة جداً. كنت أقطع شوارع باريس سيراً على الأقدام. في أحد الأيام ذهبت إلى سان جرمان دي بريه فشعرت وأنا في الحي اللاتيني مثل بقية الناس الآخرين كما لو أنني في بيتي. &يومها تقدمت مني امرأة وطلبت مني إن كنت أحب أن تقوم بالتقاط عدة صور لي لإحدى المجلات. كان جدي قد أوصاني قائلاً "لا تتحدثي مع الغرباء في باريس لأن هذا الأمر يمكن أن ينتهي بك إلى أمريكا الجنوبية".
كنت خائفة بعض الشيء لكنني قلت للمرأة وبطريقة ساذجة:"حسناً.. يمكن ذلك إذا كان ذلك وسط الناس". وهكذا تم التقاط الصور وقلت لها:"هل يمكنني استلام المبلغ الآن؟" أجابت:" كلا، لا يمكنك ذلك قبل نشر الصور في صحيفة (France)، لكنني أعطتني بعض الفساتين وذهبت إلى مجلة Elle حيث تم التقاط صور كثيرة لي. هناك قالت لي إحدى الفتيات وكانت ترتدي فستاناً جميلاً وقبعة كبيرة:"سمعت في غرفة الماكياج أنك تحبي أن تكوني ممثلة" قلت:"نعم، مدام". فقالت:"ما اسمك؟" قلت لها:"هانا كارين بليك باير". قالت:"ينبغي أن تغيري اسمك وتسمي نفسك اسماً مهنياً وأقترحت أن يكون آنا كارين". سألتها بعد ذلك:"ومن أنت؟"، قالت: أوه، أنا كوكو شانيل".
&
گراهام: إذن فقد بدأت العمل كعارضة أزياء بدوام كامل؟
آنـّـا: نعم. قلت لنفسي "لو تمكنت أن أحصل على مبلغ ٥٠٠٠٠ فرانك خلال ستة شهور فهذا يعني أنني أستطيع البقاء في باريس لثلاث سنوات في الأقل إذا اقتصدت وتناولت طعاماً قليلاً جداً كل يوم وسيكون بمقدوري تعلم اللغة الفرنسية". لقد حسبت كل هذا في رأسي الصغير. وذلك هو بالفعل ما قمت به. &ولكي أوفر نقود لم أستقل حتى الميترو. لكنني كنت أذهب لمشاهدة الأفلام لأن التذاكر يومها كانت رخيصة وبوسع المرء أن &يبقى في الصالة من الظهر إلى منتصف الليل وهذا ما كنت أفعلة في أيام الأحاد. شاهدت أفلام جان گابن وجيرارد فيليب وبدأت أفهم أن گابن حين يقول (Salt la vieille) فهذا معناه (مرحباً أيتها العجوز) وإذا قال فيليب (Bonsoir, Madame) فهي تعني نفس الشيء.
بوسع الواحد أن يتحدث بلغة الشارع وبوسع الآخر أن يتحدث الفرنسية الجيدة باتقان. وهكذا خطوة فخطوة كنت التقط تلك العبارات.
&
گراهام: وكيف التقيتِ بجان لوك غودار؟
آنـّـا: قمت بعمل الكثير من الإعلانات التجارية للمسلسلات التلفزيونية وأشياء كهذه. وكان غودار قد شاهد البعض منها وطلب مني المجىء لمقابلته لأنه كان يستعد للتحضيرات لفيلم (على آخر نَفَسْ)١٩٦٠.&
حين قابلته قال لي:"يوجد دور صغير لك في الفيلم وهو أن تخلعي ثيابك كاملة". رفضت وقلت له:"أنا لا أريد ذلك.". فقال:"في هذه الحال لن يُعطى لك الدور". قلت له: لا يهم" وغادرت. لكن بعد مرور ثلاث أشهر على ذلك اللقاء بعث لي غودار برقية يخبرني فيها أنه ربما سيكون لي دور في فيلم آخر. أريت البرقية لأصدقائي وقلت:"هذا الشاب يريد أن أذهب معه إلى الفراش أو شيء كهذا. أنا لا أريد الذهاب إلى هناك". قالوا:"هل أنت مجنونة. لقد عمل للتو فيلماً بعنوان (على آخر نَفَسْ). الجميع يقول أن الفيلم رائع. لذا ينبغي أن تذهبي لتقابليه".&
ذهبت إلى مكتبه. أخبرني أنني سأقوم بأداء دور في فيلمه الحالي وينبغي أن أوقع العقد غداً. سألته عن أي شيء يتحدث الفيلم، قال لي أنه فيلم سياسي. قلت له:"أنا لم أقم بدور كهذا من قبل فضلاً عن أن لغتي الفرنسية ليست جيدة ولا أفهم شيء في السياسة". قال:"لا يهم ـ أنت ستقومين بالشيء الذي أقوله لك". قلت له:"وهل تريدني أن أخلع ملابسي؟". قال:"كلا، مطلقاً.". &قلت له بأنني لا أستطيع التوقيع على العقد لأنني دون السن القانوني". قال لي أنهم سيأتون لي بوالدتي من كوبنهاگن."&
لم أكن قد تحدثت مع والدتي تلفونياً منذ ستة شهور فاتصلت بها وقلت لها:"أمي، سألعب دور البطولة في فيلم فرنسي. ومهم جداً أن تأتي إلى
هنا". "في فيلم... أنتِ؟" قالت. قلت لها:"نعم. وهو فيلم سياسي، ماما.". "لابد أنك جننت. ينبغي أن تذهبي إلى المستشفى ربما حصل شيء
ما لعقلك" قالت. قلت:"كلا كلا يا أمي، عليك أن تستقلي طائرة غداً وتأتي، وعكس ذلك ربما سيغيرون رأيهم".
أغلقتْ الهاتف لأنها لم تصدق ذلك. اتصلت بها ثانية وأقسمت لها برأس جدي أن ما قلته لها حقيقة، وهي تعرف أن جدي هو الشخص الأثير إلى نفسي والذي أحبه أكثر من أي شخص آخر. لذلك استقلت طائرة ووقعنا العقد. هذه هي الظروف التي جعلتني أكون بطلة فيلم (الجندي الصغير).
&
گراهام: كيف جرت قصة الحب بينك وبين جان ـ لوك غودار؟
آنـّـا: إنها قصة حب غريبة منذ بدايتها. حدث هذا فيما نحن نقوم بتصوير فيلم في ﭬيينا. كنت أراقب جان ـ لوك ينظر إليّ طوال الوقت، وأنا أيضاً كنت أتطلع نحوه طوال اليوم. كنا مثل حيوانين. في إحدى الأماسي كنا نتناول الطعام في لوزان وكان صديقي الرسام موجود هناك أيضاً. فجأة أحسست بشيء يمتد نحوي تحت الطاولة، وكان ذلك الشيء هو يد جان ـ لوك. ناولني ورقة ثم غادر وعاد إلى جنيف. ذهبت إلى غرفة أخرى لأرى ماذا كتب فيها. كتب التالي:" أحبك. موعدنا في مقهى de la Prez" وفجأة دخل صديقي الغرفة وطلب مني رؤية الورقة وانتزعها من يدي وقرأها ثم قال:&
"لن تذهبي". قلت له:"سأذهب". قال:"ولكن لا يمكنك أن تفعلي هذا بي". قلت:"أنا لدي علاقة حب معه، لذلك سأذهب". لكنه لم يكن صدقني. عدنا إلى جنيف وبدأت أحزم أمتعتي في حقيبتي الصغيرة. قال:"قولي أنك لن تذهبي". فقلت له:"أنا في علاقة حب معه منذ أن رأيته للمرة الثانية. ولا يمكنني عمل أي شيء حيال ذلك".&
كان ذلك الموعد أشبه بهزة كهربية بالنسبة لي. توجهت مشياً إلى هناك وأتذكر أن صديقي الرسام كان يعدو خلفي ويبكي. كنت مثل شخص منوم مغنطيسياً، ولم يحدث لي قط مرة أخرى في حياتي. وهكذا ذهبت إلى مقهى de la Prez وكان جان ـ لوك جالساً هناك يقرأ في صحيفة ولو أنني لا أظن أنه كان يقرأ فيها حقاً. المهم، جلست أمامه أنتظر لثوان عديدة أحسستها كأنها ساعة كاملة. فجأة توقف عن القراءة وقال:"تفضلي. هل نذهب؟".&
ذهبنا إلى الفندق الذي يقيم فيه. وحين استيقظت في صباح اليوم الثاني لم أجده هناك. كنت قلقة جداً. تحممت، وعاد هو بعد ساعة تقريباً جالباً معه فستاناً، وهو الفستان الذي سوف أرتديه في الفيلم. فستان أبيض مطرز بالورود، وعلى مقاسي تماماً. وكان أشبه بفستان زفافي. &
استأنفنا تصوير الفيلم وغادر صديقي الرسام بالطبع. وحين انتهينا من تصوير الفيلم عدت إلى باريس مع جان ـ لوك وميشيل سوبور الذي كان يلعب الدور الرئيسي في الفيلم وكذلك الممثل لازلو زابو الذي كان قد لعب في فيلم غودار (العربة الأمريكية). كنا جميعاً نرتدي النظارات السوداء وقد أوقفونا الشرطة عند الحدود ظناً منهم أننا رجال عصابات كما أعتقد.
حين وصلنا باريس ودّع جان ـ لوك الإثنان والتفت نحوي قائلاً:"وأنت إلى أين تذهبين؟". قلت:"ليس لدي مكان أذهب إليه. يجب أن أبقى معك. أنت الوحيد الذي لدي في هذا العالم الآن". فقال:" أوه، يا إلهي".&
أخذنا غرفتان في أعلى الفندق وكان جان ـ لوك يذهب إلى غرفة التقطيع يومياً. وفي بعض الأحيان لم أستطع رؤيته لعدة أيام. أظن أن لديه حياته الخاصة. كان يكبرني بعشر سنوات ولازال، يمكنني أن أؤكد لك ذلك (تضحك).&
في أحد الأيام جاء بعد الظهر وأنا كنت بانتظاره في الصالة ولم يكن لدي أي مبلغ من المال لأخرج. قال:" يجب أن تبحثي لنا عن شقة". وقد وجدت واحدة خلف la Madeleine.
&
گراهام: وهل كنت ترغبين في عمل فيلم آخر معه؟
آنـّـا: حسناً. فيلم (الجندي الصغير) كان قد تعرّض للحظر لأنه يتحدث عن الحرب الفرنسية في الجزائر. لكن مع ذلك كان ثمة عروض خاصة وكان المخرج ميشيل ديفل Michel Deville قد حضر بالصدفة واحدة من تلك العروض. اتصل ميشيل بعد فترة بجان ـ لوك وقال له أنه
يريدني أن أمثل الدور الرئيسي في فيلمه (الليلة أو أبداً). فذهبت لرؤيته واتفقنا على ذلك. كان الفيلم كوميدياً وهذا ما أسعدني كثيراً. قال لي جان ـ لوك:"كيف يمكنك قول كل هذه الكلمات المضحكة؟ لاأعتقد أن بامكانك القيام بذلك مطلقاً. قلت:" نعم، بمقدوري.". وصار يأخذني كل يوم إلى الإستديو الذي كنت سأصّوَر فيه وفي كل مرة كان يقول لي إنني لم أستطع إجادة نطق الكلمات بشكل صحيح.. كان غيوراً، كما أظن. (تضحك) ولكن ما أن رآني وأنا أغني وأرقص في فيلم (الليلة أو أبداً) حتى بادرني بالسؤال إن كنت أحب أن أشارك في فيلمه القادم (المرأة هي المرأة). قال لي:"سترقصين وتغنين مع جان بول بلموندو وجان كلود برايلي".&
لقد أسعدني ذلك بالطبع وصورنا الفيلم وحصلت على الجائزة الأولى في مهرجان برلين السينمائي، وكنت أصغر ممثلة تحصل على هذه الجائزة في ذلك المهرجان. كان الجميع يتحدثون عن ذلك وقد شعرت والدتي بالفخر حقاً. قمت بعد ذلك بأداء أدوار متنوعة في أفلام كثيرة، حينها طلب مني المخرج جاك ريفيت أن أمّثل في مسرحية La Religieuse على خشبة المسرح.
&
گراهام: وهل كانت المسرحية مثيرة للجدل مثل فيلم &La Religieuse الذي عملت به أيضاً مع ريفيت؟
آنـّـا: أوه، كلا. الجميع كان يبكي. لقد أحب الجميع الفيلم بمن فيهم بريجيت باردو التي حضرت مشاهدته هي وسامي فراي.
&
گراهام: هل كنت تشعرين بسعادة أكثر أن تعملي مع غودار كمخرج؟&
آنـّـا: أعتقد ذلك. كنا نشعر بالمتعة رغم أنه كان قاسياً وصارماً. كان يقول لنا في بعض الأحيان "لا يمكنكم حتى قراءة الصفحة الأولى لإحدى أكثر المجلات غباءاً في العالم من دون أن تخطئوا". (تضحك).&
كان سهل جداً لي العمل مع مخرجين آخرين بعد قياساً فب العمل مع جان ـ لوك، لأنهم كانوا في تلك الفترة يصورون لقطة ماستر (لقطة عامة) فقط أولاً، على شاكلة الأفلام الأميركية، ومن بعد يقومون بتصوير لقطات كلوز آب (كبيرة).. الخ.. أما جان ـ لوك فكان يصور الكثير من اللقطات العامة التي تستغرق أحياناً ٣ـ ٥ دقائق. وكان أيضاً يكتب الحوار في اللحظة الأخيرة قبل التصوير، وثمة أشياء كثيرة يمكن التحدث عنها، لكنه كان دائماً يعطينا فرصة إجراء بروفة قبل التصوير.
&
گراهام: هل كنت تدركين في ذلك الوقت أنه كان يعيد ابتكار لغة جديدة للسينما؟
آنـّـا: كنا نعرف تماماً أننا نعمل شيء خاص مميز ومختلف. كنا نعرض الأفلام في باريس والمحافظات الفرنسية ونتحدث مع الجمهور بعد تلك العروض. &بعض الناس أحبوها والبعض الآخر لم تستهويه. أتذكر في أحد الأيام كنا نجلس أنا وجان ـ لوك في مقهى شارع سانت ميشيل وسمعنا طالبين يتحدثان عن فيلم (حياتي التي ينبغي أن أحياها). الأول صرخ بأعلى صوته:"أنا أحب هذا الفيلم!"، أما الثاني الذي كان يجلس وظهره نحونا، قال:"أنا أكره أن إنفق نقودي على هذا النوع من الأفلام المقرفة". فنهض جان ـ لوك وضربه ضربة خفيفة على قفاه وأعطاه عشرة فرنكات وقال له:"حسناً، لم يعجبك الفيلم. لماذا لا تذهب وتشاهد الفيلم الذي تحبه حقاً؟". فاحّمر وجه الشاب خجلاً ثم اعتذر وغادر.&
&
گراهام: هل كنت تحلمين بلعب الدور الذي لعبته بريجيت باردو في فيلم (الاحتقار)؟
آنـّـا: كلا. جان ـ لوك أراد عمل هذا الفيلم مع بريجيت باردو. أظن أن هذا الفيلم هو من أفضل أفلامه.
&
گراهام: هل صحيح أن بعض حوارات الفيلم مقتبسة من مجريات علاقتكما وما كنتما تتبادلانه من مفردات أنت وغودار؟
آنـّـا: حسناً. حين كنت صغيرة كان جدي يحب أن يجعلني أقول مفردات بذيئة وكنت أجيبه دائماً:"كلا ياجدي، أنا لا أحب قول مثل هذه الأشياء الفظيعة!". وكان يقول لي بالحاح": فقط قولي، أنا أكرهك يا جدي، اللعنة عليك". كان يعذبني في محاولاته تلك التي كان يبغي منها تسليتي، وكان حقاً يحبني أكثر من أي شيء في العالم. بيني وبين جدي قصة حب عظيمة حقاً.&
في وقت لاحق كنت أحب أن أقول بعض الكلمات البذيئة (...) مع جان ـ لوك لمجرد التسلية. وكان يقول:"لا تتحدثي بمثل هذه المفردات". لكنه مع ذلك جعل بريجيت باردو تتفوه بذات المفردات البذيئة التي كنت أمازحه بها في فيلم (الاحتقار). وثمة جملة في الفيلم حين تقول بريجيت:"أنا أحب ستائراً حمراء. وعكس ذلك لست بحاجة لأية ستائر". حسناً. أتذكر أن هذه الجملة قلتها له حين انتقلنا إلى الشقة. الجميع يفعل ذلك على كل حال. لقد كتبت ثلاث روايات وفي بعض الأحيان كنت أستخدم بعض مفردات التي أسمعها في الشارع.
&
گراهام: لكن الأمر يختلف قليلاً حين تزوجتما، أليس كذلك؟ ألا يزعجك أن جان ـ لوك وهو يعكس خصوصياتكم في أفلامه؟
آنـّـا: لم يكن يمس خصوصياتنا كثيراً. مجرد حوار هنا وآخر هناك من حين لآخر. &أعني، لم يكن الأمر بهذا السوء، ولم أكن أنا فتاة عاهرة كما كنت في فيلم (الحياة التي ينبغي أن تحياها) ولا قاتلة مثلما كنت في فيلم (بيير المجنون)، ولم أتعرى يوماً مثلما فعلت في فيلم (المرأة هي المرأة)، ولم أكن بتلك السذاجة كما في فيلم (Brand of outsiders).
&
گراهام: ماذا يعني التحدث والنقاش مع لفيف من الموجة الجديدة؟
آنـّـا: شيء مثير وممتع جداً، لكنني لم أكن أتحدث كثيراً. كنت أصغي. كنت صغيرة جداً وكانوا جميعهم أكبر مني سناً وأكثر ثقافة. لقد علمني جان ـ لوك كل شيء. جعلني أقرأ وأعطاني محاضرات، لكنه من جانب آخر كان يصعب العيش معه. كان أحياناً يقول :"سأذهب لشراء سجائر" ويعود بعد ثلاثة أسابيع.
&
گراهام: هل تعتقدين أن أفلامه أصبحت سياسية أكثر في أواخر الستينات؟
آنـّـا: بطريقة ما. لكنني بدلاً من ذلك أود أن أقول أن جان ـ لوك كان يحكي قصصاً في أفلامه. أعتقد أن أفلامه كانت أكثر سياسية حين لم يكن يتحدث فيها عن السياسة. وهذه وجهة نظري.&
&
گراهام: بعض النقاد قالوا أن أفلامه تفتقر إلى العاطفة، لكن كان ثمة حب هائل في الطريقة التي صوّرك فيها. هل تتفقين معي؟
آنـّـا: نعم، جداً. كانت قصة حب عظيمة. أظن أنها ظهرت جلياً على الشاشة. أعني، كانت هكذا بالنسبة لي. لكن الكثير من الناس لا يعرفون عن حياتي. الآن فقط وحين كبرت في السن بدأت حقاً أتحدث عنها.
&
گراهام: ما هي الأفلام المفضلة بالنسبة لك؟
آنـّـا: إنها تختلف بعضها عن البعض الآخر. أنت تعرف، أنهم مثل أطفالك.. أحياناً أحدهم مؤثر أكثر قليلاً من الآخر. لكنك لا يمكن أن تختار بينهما. بعض الشباب الذين قابلتهم في المهرجانات السينمائية قالو لي أن فيلمهم المفضل هو (حياتي التي ينبغي أن أحياها) أو (المرأة هي المرأة) لكن الأغلب فضلوا فيلم (بيير المجنون). في إنگلترا والبرازيل مثلاً أحبوا فيلم (Alphaville) وفي ألمانيا فضلوا فيلم (المرأة هي المرأة).
&
گراهام: متى بدأت تشعرين أنك أصبحت ممثلة جيدة؟
آنـّـا: حين كان عمري خمس سنين لأن الأطفال لايتهيبون.
&
گراهام: وهل هذا يعني أنك أصبحت أقل ثقة فيما بعد؟
آنـّـا: أنا أحس دائماً بحالة من الاضطراب والقلق قبل التصوير، لكن ما أن تدور الكاميرا بشكل فعلي حتى يتلاشئ كل ذلك ذلك الخوف والاضطراب. إنه الشيء ذاته الذي كنت أحس به في ذهابي إلى المسرح حين كنت في سن السادسة.
&
گراهام: هل ستقومين بتسجيل أغان أخرى؟
آنـّـا: نعم. &فيليب كاترين وأنا نكتب حالياً أغان جديدة. تحدثنا معاً كثيراً ونحن قريبتان من بعضنا البعض كثيراً وذات الشيء مع جل العازفين. لم تعترضنا أية مشكلة على الإطلاق. الجميع يحب بعضهم البعض بحميمية عالية.
&
گراهام: هل تعزفين على آلة ما؟
آنـّـا: كنت أعزف على البيانو قليلاً لكنني الآن نسيت. سأحاول التدرب العزف على الگيتار. وفي العرض سأرقص قليلاً بالإضافة إلى الغناء.
&
گراهام: هل تحبين عمل أفلام أكثر؟
آنـّـا: أظن ذلك. إن كان هناك دور صغير ممتع ومشّوق سأقوم بأدائه. وإذا لم توجد فرصة كهذه، بوسعي أن أكتب كتاباً آخر، أو أن أجرب عمل كوميديا موسيقية.
&
گراهام: لقد تحدثنا كثيراً عن الماضي، لكن هل تظنين أنك شخص يعيش في الحاضر؟
ج: وماذا يمكن أن تفعله غير ذلك؟ إذا جلست وصرت تبكي على الماضي فسوف لن تذهب إلى أي مكان. كان الصحفيون يسألونني أحياناً إن كنت قد سئمت من الحديث عن هذا كله. لكني لست كذلك. إنه لأمر حسن أن تعرف أنك فعلت شيئاً لازال يحرك مشاعر الناس. كيف يمكن أن أجلس وأقول:"كلا، أنا لا أعير اهتماماً لذلك؟" أو "أنني أشعر بالفخر حقاً مما فعلت". كلا، هذا شيء أكثر من اللازم!.
ــــــــــــــ
گراهام فولر (*)
گراهام فولر ناقد سينمائي بريطاني وكاتب عمود شهري سينمائي للعديد من الصحف البريطانية وأيضاً في العديد من المجلات لعل أبرزها مجلة (Sight & Sound) و (Cineaste)، وهو المحرر التنفيذي وكاتب مقالات سينمائية في مجلة (The Movie) من العام (١٩٨٠ ـ ١٩٨٣) وكان لديه عمود سينمائي شهري في مجلة (Interview) من العام ١٩٩١ ـ ٢٠٠٨. كذلك كتابه (التأريخ الشامل للسينما) الذي نشره على أجزاء أسبوعية. وهو محرر كتب عدة أبرزها (بوتر عن بوتر، لوتش عن لوتش، مايك لي عن مايك لي). نشرت مقالاته السينمائية في نيوورك تايمس، لو أنجيليس تايمس، ذه فيليج فويز، گارديان وسواها عديدة.

&