&
نص مقال عن اعمال الفنان العراقي نزار يحيى بمناسبة افتتاح معرضه الشخصي المعنون ب ( الحق ) في قاعة غالري كريم بالعاصمة الاردنية عمان بتاريخ يوم السبت ٢٩ اكتوبر.
&
&
لقد جاء معرض الفنان العراقي نزار يحيى الحالي ، كثمرة عمل ابداعي مضن امتد لعدة سنوات ، وعلى وجه التقريب منذ عام 2012 ، &الا ان المفردات التي تضمنتها اعماله الحالية كانت ولا تزال وستبقى لزمن طويل ، كما لو انها العصب الاشد حساسية في تفعيل خياله من جهة اهتمامه بالوجدان الاعم ، وهو الوجدان الحضاري للذات الانسانية الشرق اوسطية .
فلا يقف مبحثه في الرسم عند الجانب الروحي لهذه الذات حسب ، بل يتعداه بمسعى التماهي مع الهوية الحضارية ايضا في آن ، وطرح الاسئلة الصعبة في آن اخر ، اسئلة عن معنى الوجود الانساني واخرى عن معنى ان يعيش الانسان ليحقق ذاته الى الحد الذي يجعله ضحية لهذا التحقق .
ان احد الاسباب الاكثر اهمية لوضع هذا النص هو موضوع المعرض ذاته ، فقد كنا - أنا ونزار ـ كفنانين عراقيين تعاملنا مع ذات المناخ الفكري لموضوعته الحالية ، ولكن كل من زاويته الخاصة ومن وجهة اهتماماته التقنية والفكرية .
لم يؤدِ هذا الامر الى اي مماحكة ثقافية بيننا ، فليست في ذواتنا اي منطقة يتعين الدفاع عنها باعتبارها ملكا خاصا لاحدنا.
لقد كانت دعوة نزار لي بالكتابة عن معرضه هذا خير مثال لعملنا المشترك ، لانضاج ذات الفكرة وذات المحور الإنساني الذي لم يتوقف النشاط الثقافي في منطقتنا عن الرجوع اليه في العديد من المراحل.
يحيطنا نزار علما بشيء يتعلق بفحوى عنوان معرضه والمعاني التي يتضمنها هذا العنوان وهو ( الحق ) : " انا اجد ان النصوص التي درجت على استخدام كلمة حق تظهر في وجهين هما: الباطن والظاهر ، فلهذه الكلمة وقع كبير في النفس ويجد الصوفيون فيها الكثير من المعاني والدلالات والاحالات ، لكنني مع ذلك لست معنيا من قريب وبعيد بالاشكاليات الفكرية التي احاطت بها وبكيفية التعامل معها . هنالك مفردة شخص الحلاج ذاته وما احاط بها من ملابسات اضحت معروفة لدى الكثيرين ، أقول ان هذه الإشكاليات لا قيمة لها لدي من الناحية الإبداعية بقدر اهتمامي بالحالة الثقافية ذاتها من جهة كونها تحمل في داخلها العديد من الاجتهادات ووجهات النظر، فأنا لست مهتما هنا بإصدار حكم تقييمي ".
فكلمة الحق تنطوي على معانٍ معروفة : فهي اسم من اسماء الله عز وجل وهي ايضا تعني العدالة المطلقة والثبات.
ان معرضه هذا ليس عملا توضيحيا لهذه الملابسات ، بقدر كونه محاولة لصنع شكل مادي بصري يبث المعنى وهو بصورته الاشمل ، دون الخوض في تفاصيل الحدث التاريخي ، وعلى سبيل المثال ، فهو غير معنٍ هنا بملابسات الشطح الصوفي واشكالياته ولا بفكرة (وحدة الوجود) او (الحلول) ، فهو كفنان لا يجد في &نفسه حاجة الى تناول هذا المواضيع ، لان مهمة الفنان لا تتوقف عند المعالجة الفكرية ، بل يكون توجهه نحو المعالجة الشكلية والصياغة البصرية والخيالية ، اكثر من الحكم الفكري التقييمي او التاريخي والاجتماعي او السياسي او الوصفي ، كما اسلفت .
لدى نزار عدة منابع استلهم منها ما يؤسس للسمات البصرية لهذا المعرض الذي يضعنا ازاء اشكال وطرائق مختلفة لمعالجة ذات الموضوع ، فلدينا بالدرجة الاولى المعالجة التي تستخدم تقنية الفوتو وبجانبها المجسمات مدعمة بدراسات تحضيرية لهذا المنجز الذي اعتبره من وجهة نظري الخاصة من اكثر اعماله نضجا وعمقا .
اود ان اشير الى انه &كان قد عالج سابقا موضوعات تتوافرعلى مناخات تقترب كثيرا من مناخ هذا المعرض ، واولها مشروع معرضه الذي حمل عنوان (ارض الطيور) ، وهو متعلق بكتاب فريد الدين العطار ( منطق الطير) ، والعطار من رجالات الصوفية كما هو معروف. وبعدها &تناول موضوع ( يوسف وإخوته ) لينتهي عند معرض (ماء ألورد) وما فيه من إيحاءات مستمدة من اشعار جلال الدين الرومي مضفيا عليها شيئا من ملامح اعمال الفنان الامريكي ( تسي توينبلي ) وانتهى الان بمعرضه ( الحق ) والذي يشتمل على &محمولات واضحة المعالم للبنية البصرية التي يعالجها .
ان المحاور التي لعبت دورا مهما فيما يتعلق بهذا المعرض هي كالتالي :
&
تداعيات زمن الطفولة
المادة الصوفية
التأثيرات المتعلقة بالنحت الإغريقي
&
لنبدأ اولا بزمن الطفولة ، وما أضفاه على طبيعة معالجته لموضوع هذا المعرض ، فكما نعلم ان مصادر مخيلة الفنان متعددة وقد تتوافر علي وشائج قد تبدو احيانا غريبة عن عقلية المتلقي ، فلدينا هنا مفردة العباءة مثلا التي وضعتنا امام طريقين في التأويل والترميز ؟ يقول نزار بصدد هذين الامرين : " اعتدت ان اعقد الصلات مابين مفردات أقوم باختيارها ، فقد وضعت مقاربة بصرية مابين عباءة الحلاج وعباءة أمي ، وقد ركزت على التفاصيل التي تتعلق بهما مثل لون السواد وشكليهما ، وقبل كل شيء ، طيات القماش ونهاية العباءة التي تتشكل في حالة تعليقها على مسمار دق في الحائط ، لقد شكلت عباءة امي جزءا هاما من مخيلتي وانا طفل ، وايضاً مخيلتي الحالية وانا فنان . وقد يكون من الواجب التصريح بشيء مما ترك اثرا في مخيلتي ، فقد كان ينتابني هاجس الرعب من فكرة مفارقة أمي داخل السوق وهو هاجس امتلك العقل الباطن للغالبية العظمى من الأطفال في العراق كما اعتقد . ان مفارقة الام داخل سوق يعج بنساء يرتدين نفس العباءة بحيث يصبح من الصعب إيجاد الام الحقيقية يشكل كابوسا حقيقيا للطفل ، لا ادري بالضبط ماهو الدافع الذي جعلني اهتم بعباءة الحلاج والبحث عن إيجاد مفردة ثانية وهي عباءة الام كقرينين في مخيلتي . لنترك الامر لتأويل المتلقي او لمن يريد ان يخوض في حقل التحليل النفسي ، لكنني استعرض المصادر الحقيقية التي جعلتني انكب على معالجة هذا الموضوع ".
&
ومن الناحية الخاصة بالرؤيا الصوفية ، فان شكل العباءة وهي معلقة على مسمار يجعلنا وهو بشكله الحاد الزاوية ، نشعر بوجود طاقة سحرية تتعزز كثيرا عندما نتخيل &العباءة بشكلها وهي واقفة دون ان تعلق بمسمار كمفردة نحتية ثلاثية الأبعاد .
والمقصود هنا بالطاقة السحرية معنى حالة العروج او تسامي المرء الى مفارقة الأرضي والتوجه نحو العلوي .
وبمناسبة ماذكره نزار حول الطاقة السحرية للعمل الفني ، اجد ان من المهم تسجيل الأحوال الثلاث التي يمكن لنا الانتقال بينها لدى مواجهتنا لأي عمل فني وهي التي تناولتها المرجعية الفكرية للفيلسوف الفرنسي سارتر في مبحثه عن معنى التخييل فالحالة الاولى وهي المظهر المادي الواقعي للعمل الإبداعي باعتباره قبل كل شيء ( عيان ) يدرك بالحس وهي مرحلة بدائية جدا ، بموجبها &يتم النظر الى العمل باعتباره مجموعة ألوان واشكال قد تتم إحالتها الي أصل موضوعي .
والحالة الثانية هي عملية الوعي بالمحتوى المفاهيمي للعمل ، وهنا تطفو علي السطح فكرة العروج التي توحي بها بعض اعمال نزار وفكرة التضحية بالذات والجسد .
لكن هناك مرحلة اكثر تقدما من مرحلة تفعيل الوعي وهي ( التخييل ) فسرعان ما يتخلى العمل الفني عن هويته المادية والمفاهيمية والترميزية ليسلم نفسه الي وعي المتلقي لممارسة حريته التي وصفها سارتر : " الوعي من حيث هو يمارس حريته الكاملة " ففي هذه اللحظة نذهب الى أقصي مايمكن الذهاب اليه ونحن نتفاعل مع العمل الفني .
لم يكن لنزار ان يكتفي فقط بمعنى العروج كمادة مفاهيمية لعمله مع العباءة ، فقد جذبته وخاطبت إحساسه الطيات التي تشكل &بنية العباءة ، فكل من اهتم بتاريخ الفن الكلاسيكي وبالذات النحت الإغريقي سيجد ان شكل الرداء اللين أسس لعنصر جمالي ذو أهمية كبيرة ، فقد ساهم الرداء في زيادة اللذة الجمالية لشكل المنحوتة الانسانية . فعدا عن كونه يقوم بتغطية العورات ، فهو يساهم ايضا في اغناء الجانب الجمالي من جهة كونه يشكل تضادا مابين الأشكال اللينة المرنة للجسم البشري بمواجهة مايتوافر عليه شكل الرداء من انسيابية وكذلك على خطوط مستقيمة عامودية او مائلة ، وهو ما أسس الى نظام تكويني في غاية الروعة .
لم يستعر نزار هذه القيمة التكوينية في أعماله بشكل كامل ، فقد استبدل القماش اللين والناعم بقماش خشن محبوك من وبر الإبل قاصدا بذلك تصعيد التضاد مابين ليونة الجلد الإنساني وما بين خشونة القماش الذي استخدمه في صوره الفوتوغرافية ، فهناك علاقة قد تنشأ مع نزوع الصوفي الي ارتدائه للخشن من الأردية امعانا في عدم الرضوخ الى رغبات الجسد وما بين خيار نزار في تصعيد حالة الخشونة في الرداء .
أضف الى ذلك الإحساس الذي يمنحنا إياه السطح الظاهري للقماش الخشن ، فنحن كما لو كنّا ازاء حركة خطوط معمولة باليد على سطح فوتوغرافي من شانها اخفاء بعض اجزاء الصورة .
ويستخدم نزار في احد اعماله عباءات ترسم بأشكالها القريبة من شكل الحروف كلمة الله في إحدى أعماله في الفوتوارت .
يقوم شكل الجسد المعروض بصيغة ظل مرة &وبصيغة فوتوغرافية ثلاثية الأبعاد في مرة اخرى ، &بالإيماء لحالات دراماتيكية تؤثر بعمق في نفس المتلقي ، فيظهر الجسد وقد تقطعت او اختفت بعض أجزاءه ولكن بصيغة هي اقرب الي الشاعرية منها الى الرعب الذي تمارسه فينا الصور التي تنتشر في وسائل التواصل في وسائل الاعلام .
&
فنزار ليس بمؤرخ ولا باحث في الأديان ، وليس في دائرة اهتماماته البحث في الشخصيات الصوفية ،ولذا &فعلينا ان نفهم اولا انه صانع صور بالدرجة الأولي ، وانسان يتفاعل مع المادة بصيغة ابداعية ووجدانية ، ومصادره الإلهامية لايمكن لها ان تضيق بحيث تنصرف الي موضوعات العقائد والمذاهب بكل ما تنطوي عليه من اشكاليات ، فهو يؤكد على الجانب الحضاري والثقافي وما ينطويان عليه من إشارات تؤثر في النفس التوّاقة الي الكشف عن معني حقيقة الوجود الإنساني عند كل منعطف تاريخي بمعزل عن الانحياز العقائدي الجامد . فهل يا ترى ينسحب هذا الموقف على مشروعاته السابقة ؟ واقصد هنا ( معرض الأندلس ) ومعرضه الذي اقامه في غاليري البارح في البحرين واهتم فيه بالتاريخ العراقي الحديث ؟ اعتقد ان الامر كذلك ، وأستطيع ان اذهب بعيدا لأجد علاقة كبيرة بين نزعة نزار في التعبير وبين نزعة التعبير في المنهج الرومانتيكي العالمي في الفن ، فقد تكون طبيعة إنجازات هذا الاتجاه الأنف الذكر اثرت على فن نزار ورسمت ملامح طريقته في التعبير ، فهنالك بالتأكيد حضور لهذا التوجه في أعماله الفنية واقصد هنا النزعة الذاتية في رؤية الحدث التاريخي اوالأسطورة ، واعتبارهما مناسبة لممارسة حالة الإسقاط التي يقوم بها الفنان والشاعر والموسيقي ، فهنا نجد مقاربة مابين عمله في موضوع الحلاج وملابسات قضيته ، وانتهاء حياته بالإعدام واعتماده على منمنمة فارسية تتضمن ثيمة الإعدام بحق الحلاج &وبين ما قام به غويا الإسباني في لوحته (الثالث من مايو ) او ديلاكروا في لوحته ( مذبحة ساردنبال ) او النتاجات الاخرى للفن الرومانتيكي ، حيث تتشكل المادة الخيالية والنفسية والعاطفية لذات الفنان في صورة عمل فني لتتوسع وتنداح حتى تصل الى رسم الملامح الوجدانية العامة للبشر بصفة أعم واشمل .
&
فنان وكاتب عراقي مقيم في السويد&
عمان ، ٢٠١٦