هل من المعقول أن يقوم فنان عظيم له سمعة صمدت على مدى قرون عديدة بممارسة الغش والإحتيال؟ للأسف، هناك أدلة وردت على لسان مؤرخين ومصادر من ذلك الزمان تؤكد أن هذا العمل قد بدر بالفعل عن فنان عظيم يعتبر أحد أعمدة عصر النهضة وواحدا من أكثر فناني زمانه تميزا وقدرة وإبداعا، وهو مايكل أنجلو. وما فعله هو أنه حاول خداع السوق وجامعي التحف الفنية ومقتنيها عندما نحت عملا أسماه "إيروس نائما" وعرضه على أنه منحوتة رومانية أثرية قديمة ثم باعه بسعر باهض.&
كان ذلك في عام &1496 عندما عُرض التمثال الرخامي على الكاردينال رافائيل رياريو الذي عكف خلال حياته على اقتناء كل ما هو أثري وقديم. ولأن التمثال بدا أصليا ورائعا ولأنه يحمل آثار إهمال وقرون مضت فقد قرر شراءه. وهنا تختلف الروايات في من صاحب الفكرة الأصلية في طرح المنحوتة الحديثة على أنها أثرية كي يرتفع سعرها، أهو مايكل أنجلو نفسه أم تاجر أعمال فنية كان يتعامل بمثل هذه النشاطات يدعى بالداساري ديل ميلانيزي؟ علما أن الأخير خبير ومن غير الممكن أن ينخدع بعمل مزيف ولكن تذكر الروايات رغم ذلك أن مايكل أنجلو تمكن من خداعه وإقناعه بأن المنحوتة قديمة ليبيعها بعد ذلك وليقبض ثمنها وهو في منتهى السعادة.&
كان مايكل أنجلو بوناروتي نحاتا مغمورا جدا في ذلك الوقت لا يتجاوز الحادية والعشرين من العمر لكنه كان أيضا قد تلقى تدريبا جيدا على العمل الفني منذ سن الثالثة عشرة في مشغل واحد من كبار الفنانين. وكانت العادة قد جرت في ذلك الزمان أن يمر كل فنان بمثل هذه المرحلة التي تتضمن من بين ما تتضمن أن يقلد أستاذه وأن يتقن النسخ قبل أن يتمكن من تطوير أسلوبه الخاص وتوقيعه المميز. ويقول أستاذ التاريخ ومؤلف كتاب "فن التزوير" نوا تشارني: "كانت قدرة الفنان على تقليد منحوتة رومانية قديمة دليلا على مهارة عالية في عصر النهضة وكان على الفنانين المرور بورش الفنانين المعروفين وتقليد أعمالهم في ذلك الزمان وظلت تلك العادة مستمرة حتى بدايات القرن التاسع عشر".&
لكن المنحوتة التي باعها مايكل أنجلو على أنها قديمة والتي فُقدت لاحقا ولا أحد يعرف مكانها حتى الآن كانت وراء الشهرة والسمعة المهمة والثروة التي حصل عليها الفنان لاحقا وذلك لأن الكاردينال رياريو إكتشف بعد حين أن التمثال لم يكن أصليا فأعاده واسترد ماله غير أنه لم يعاقب الفنان ولم يشهر به بل فعل العكس تماما إذ أعجب بإزميله إلى درجة أنه دعاه إلى روما ليحتضنه وليكون راعيه الأول هناك ثم طلب منه خلال عام واحد، بين 1496 و1497، إنجاز عملين نحتيين مهمين كان أحدهما "إيروس واقفا" الذي فُقد هو الآخر حاله في ذلك حال "إيروس نائما". أما العمل الثاني فكان لإله الخمر الروماني باخوس وهو محفوظ الآن في متحف بارجيللو في فلورنسا، مدينة الفنان الأصلية. وفي روما أيضا نحت مايكل أنجلو أشهر أعماله على الإطلاق وهو بييتا (1498-1499) ويمثل السيد المسيح في حضن السيدة مريم بعد إنزاله من الصليب ويوجد التمثال حاليا في كاتدرائية القديس بطرس. وقد حصل أنجلو بفضل هذا العمل، وما يزال، على اعتراف الجميع بتميزه الخاص وبقدراته الممتازة.
&
لماذا؟
ولكن ما الذي دعا مايكل أنجلو إلى إنجاز منحوتة والإدعاء بأنها رومانية قديمة؟ علينا الإشارة هنا إلى أن إيطاليا طورت خلال عصر النهضة اهتماما خاصا بكل ما هو قديم وأثري حيث كانت مثل هذه القطع تباع وتشترى بأسعار باهضة وكانت هناك طبقة من المرفهين الذين يجدون لذة في اقتناء مثل هذه التحف والإحتفاظ بها كدليل على الوجاهة ويسر الحال والترف. وكان الفنان مايكل أنجلو في ذلك الوقت قد غادر مشغل الرسام دومنيكو غرلاندايو في عام 1489 ودرس النحت تحت رعاية برتولدو دي جيوفاني في قصر حاكم فلورنسا الشهير لورنزو دي ميديشي الملقب بلورنزو العظيم أو الرائع. وكان أنجلو قد أنجز حتى ذلك الوقت أعمالا بسيطة لا تغني عن جوع منها نقش بارز اسمه "معركة القناطرة" 1490-1492 و"العذراء سيدة السلالم" في عام 1490 ثم ما لبث أن وجد نفسه دون رعاية ودون مال بعد وفاة ميديشي.&
ليس من الواضح من كان وراء فكرة بيع "إيروس نائما" باعتبارها &قطعة أثرية، أهو الفنان نفسه أم تاجر التحف؟ ولكن المؤرخ جورجيو فازاري، في الفصل الذي خصصه لمايكل أنجلو في كتابه "سير حياة أبرع الرسامين والنحاتين والمعماريين منذ تشيمابو حتى زمننا الحالي" وصدرت الطبعة الأولى منه في عام 1550، عرض مايكل أنجلو على أنه عبقرية فذة فريدة من نوعها أرسى أسلوبها معايير الفن في عصر النهضة العليا ثم اهتم بوصف قدراته رساما ومعماريا ولكنه ركز على مهاراته المتميزة في مجال النحت والتي لم يتمكن أحد من تجاوزها في زمانه.&
وكتب باولو جيوفيو (1483-1552) مؤرخ سيرة مايكل أنجلو يقول "حقق مايكل أنجلو أهم مرحلة في شهرته بفضل عمل نحتي من الرخام للإله إيروس دفنها في التراب لفترة من الزمن ثم أخرجها وحافظ على علامات التقادم التي ظهرت عليها كما نحتها بطريقة الرومان ليبدو العمل أثريا ثم باعها بسعر باهض للكاردينال رياريو عن طريق تاجر تحف فنية". وتذكر مصادر أن التاجر، بعد استرداد المنحوتة من الكاردينال رياريو، ما لبث أن باعها مرة أخرى وهناك إشارة إلى أنها كانت ضمن مجموعة أول قيصر من أسرة بورجيا ثم انتقلت إلى أشخاص آخرين &قبل أن يشتريها ملك انكلترا شارلز الأول ويأخذها معه في عام 1631 ومن المعتقد أن التمثال تعرض إلى التدمير في حريق قصر وايتهول في عام 1698. وعلى أية حال سرعان ما ارتفع سعر "إيروس نائما" في غضون ست سنوات فقط من تاريخ إنتاجها بسبب تزايد شهرة الفنان الذي صنعها خلال تلك السنوات وباعتبارها واحدة من إنتاجاته الأصلية المهمة.
ويذكر كاتب سيرة آخر هو آسكانيو كونديفي (1525-1574) قصة "إيروس نائما" ولكنه يعرضها بطريقة مختلفة ويقول إن مايكل أنجلو نحتها في فلورنسا وإن تاجر التحف وعده بإقامة في روما إن استطاع بيع التمثال على أنه تحفة رومانية أصلية. &
ومع ذلك يبدو أن "ايروس نائما" لم يكن العمل الوحيد الذي زوره مايكل أنجلو إذ يكشف فازاري الذي كان صديقا لأنجلو عن أن الفنان كانت لديه عادات غريبة منها "استعارة" أعمال أصلية ثم إعادة نسخ مزورة محلها، وكتب يقول: "كان ينسخ رسومات الفنانين الكبار القدامى بطريقة متقنة بحيث يصعب التمييز بين اللوحة المنسوخة واللوحة الأصلية. وكان يدخن ويضيف إلى الورق لونا أصفر يمنحه طابع القدم. وغالبا ما كان يحتفظ بالإصلية ويعيد النسخ إلى أصحابها".
&
التعليقات