يقول ويلفريد أوين (1893-1918) أحد أبرز الشعراء البريطانيين الذين عاشوا الحرب العالمية الأولى وكتبوا عنها: "قبل كل شيء أنا لستُ معنياً بالشّعر بقدر ما ينصبّ اهتمامي على الحرب وعلى الشفقة التي تثيرها، فالشعر يكمن في الشفقة". &
في مجموعته الشعرية الجديدة «يوميّات الحرب القائمة» يحضِر الشاعر السوري خلف علي الخلف الحرب ضيفاً إلى مختبره الشعريّ مصطحباً إياها في جولةٍ نمطية من جولات الشتات السوري الراهن، حيث يشير الخلَف في مقدمة مجموعته الشعرية إلى أماكن ولادة هذه النصوص في مُدُن مختلفة ما بين "الاسكندرية، القاهرة، الرقة، غازي عنتاب، اسطنبول، صوفيا، أثينا، استوكهولم" ولعلّ ما يربط هذه المدن ببعضها هو احتضانها لألوف السوريين الذين لجؤوا إليها تحت وطأة الحرب وأهوالها لتشكّل خارطة موجزةً لشتاتهم.&
يستهلّ الشاعر الكتاب بإهدائه إلى "الشهداء والمعتقلين المجهولين الذين لم يذكر أسماءهم أحد"، ثمّ يُدْخِل الحرب إلى بيتِ تجربته الشعرية عبْرَ بوابة نصَ يحمل عنوان "ضيف" وهو أحد النصوص التي اندرجت تحت العنوان الفرعي "يوميات الحرب القادمة" فيما اختار بناءً خاصّاً للكتاب وزّعه على سبعة عناوين فرعية هي (1- يوميات الحرب القادمة، 2- هنا الحرب... يوميات الحرب القائمة، 3-عيّنات عشوائية من مجازر كثيرة، 4- خطابات الحرب، 5- مجازات الموت، 6- هوامش الحرب، 7- عن سوريا التي يعرفها الجميع)، بينما أفرد المحورين الأخيرين من المجموعة لتضمينهما هوامش تحت عنوانين هما "سيرة واقعية لمجازات المجازر (هوامش)"، و"سيرة مقتضبة لأشخاص مرّوا في النصوص (هوامش)".&
&
بداية حارّة.. أبواب مفتوحة لضيف قسري&
في النص الذي حمل عنوان "ضيف" ثمّة &نبوءة شعرية يلفّها الأسى، يقينٌ بأنّ الزائر القسريّ سيدخل البيت/البلاد ولن يخرج قبل أن يريق دماً مديداً ويزهق ما شاء من الأرواح، إلاّ أنّ النص يتوسّل صفقةً مؤلمة مع هذا الضيف الثقيل:
"أهلاً بك أيتها الحربُ،&
تفضّلي!&
البيتُ بيتك ونحن أهلك&
ستشربين ما تشائين من دمنا
ستأكلين حتى تشبعي من جثثنا..&
عِدينا فقط،&
أنّك ستأخذين الطاغيةَ معك في طريق العودة. "
فيما نمضي في استعراض متن الكتاب نبقى أسرى للبداية ودلالاتها إذْ يبدو أنّ اختيار هذا النص جاء اتساقاً مع خطة واعية لهيكل الكتاب فيما يشبه مواكَبةً لسيرة الحرب الدائرة على الأرض وفي وجدان الكاتب، واشتغالاتٍ تعيدُ تعريف ما نحسبه بديهياً وناجز.&
&
مقترح العمل: المأساة..العادي مؤلمٌ وعارٍ
ضمن مقترحات العمل الشعري الذي بين يدينا، يبدو تفكيك فكرة معقّدة كفكرة الحرب مقترحاً رئيسياً لا أحسب أنّنا -كقرّاء- سنجهد في تتبّعه في سياق النصوص، ينهض هذا المقترح على رافعين أساسيين، أوّلهما نسق لغوي اعتيادي ومباشر -لغة منزوعة البلاغة- وثانيهما مشهدية درامية متخفّفة من التخييل الشعري المكرّس والمألوف عادةً حين يتعلّق الأمر بموضوعات تندرج ضمن تصنيف &مواضيع"كُبْرى" كالحرب، وبدلاً من الأسئلة المعقدة نطالع بساطة قصديّة أقرب ما تكون إلى سرد مَحكي يعرّي موضوعه وينزله من مقام الحدث الذي تُقرَع له الطبول إلى منزلة االيومي الاعتيادي آخذاً بالتقاط صورٍ متعدّدة له في أوضاع متباينة ومن زوايا مختلفة تزداد حدّتها كلّما مضينا قُدُماً وراء الكلمات التي لا تكتفي بوخزِنا وحسْبْ، إذْ يتسرّب الألم على مهلٍ حتى يستولي على إدراك القارئ ليجد نفسه عالقاً تحت القصف أو شاخصاً أمام جثّةٍ من جثث المجازر التي صارت مفرداتٍ مألوفة في القاموس اليوميّ للسوريين في سياق الأهوال التي تحيط بحياتهم.
" ...في هذه الحرب رأينا جثثاً كأشجار يابسة مكسّرة الأغصان، مرميةً على جوانب الطرقات والأنهار،&
خبزاً ملطّخاً بالدم،&
أكياس خضارٍ تُعرَضُ على قناتنا الفضائية (دون سحرٍ أو ادّعاءٍ لمعجزة) كأسلحة استخدمها "الإرهابيون"&
قناصاً يقطّع وقت مناوبته الطويل والمملّ باصطياد المارّة؛"
&
تصبح اللغة شديدة الإيلام -على بساطتها- كلّما توغّلنا في متنِ الكتاب مستعرضين لوحاتٍ تسيل منها الدماء وتصبح البداهة فيها ألغازاً وحيرَةً مضنيةً، وعجزاً يُثقِل الروح أمام فظاعةِ هذه التراجيديا البائسة.
بالرغم من فداحتها ومن فتحها للجُرح السوريّ أمام أعيننا لتضعَ ملحها الشعري فوقَ دمه النازف، إلاّ أنّه يسجَّل لهذه النصوص قدرتها على استدراجنا خارج دوائر اللامبالاة نحو فوهة البركان تماماً لتتلاشى خيارات القارئ فيجد نفسه إمّا ضحيّةً أو إمّا قاتل. &
"قال الطفلُ: اقتلني واترك أمي وأبي.&
قالت الأم: اقتلني واترك ابني وأباه.&
قالَ الأب: اقتلني واترك ابني وأمّه.&
قال القاتلُ: لا تقلقوا، سأقتلكم جميعاً. "
تجدر الإشارة إلى أنّ الشاعر قد خصّص ريع الكتاب لصالح دعم تعليم الأطفال السوريين في مخيمات اللجوء.&
&
&
كاتب ومترجم سوري