مكفوف أصم يعلم المبصرين والسامعين
الكسندر سوفوروف بين الجامعة والمكتب

عماد الدين رائف: يخرج سوفوروف كل يوم من منزله صباحاً معتمداً على نفسه، مستعيناً بعصاه البيضاء، متلمساً طريقه نحو قاعة المحاضرات في الجامعة الروسية للتعلم الأكاديمي، كلية الانتربولوجيا. ما أن يصل البروفسور المكفوف الأصم حتى يقف عشرات الطلاب احتراماً، ليغوص معهم في علوم ترك بصماته الواضحة عليها خلال السنوات الثلاثين الفائتة من خلال عشرات من المؤلفات التي غدت مراجعاً في الاجتماع، علم النفس، وعلم الانسان. من هو الكسندر الذي يقضي أوقاته بين الجامعة والمكتب ورياض الأطفال؟ نصحبكم في رحلة مع حياة هذا الرجل الذي تحدى المستحيل ويتحداه يومياً وينتصر.

ولد الكسندر عام 1953 في مدينة فرونزي (بشكيك حالياً) في جمهورية كرغيزيا السوفياتية السابقة، لوالدين عاملين. فقد بصره وهو في الثالثة من عمره فألحقه والده عام 1960 في مدرسة خاصة بالمكفوفين، بقي فيها سنتين ثم ما لبث أن فقد سمعه بشكل تدريجي. فالتحق ببيت أطفال زاكورسكي لمتعددي العوق. رشحه مدرسوه مع ثلاثة من زملائه عام 1971 لخوض تجربة تعليمية متميزة في أكاديمية التربية الخاصة في موسكو، حيث أمضى ثمانية أشهر يتحضرون للالتحاق بالجامعة. اختار الكسندر الدراسة في كلية الفلسفة في جامعة موسكو الحكومية (المسماة باسم العالم م. ف. لومنوسوف)، ثم ما لبث أن التحق بكلية علم النفس التي استهوته، وقد أنهى مرحلة الدبلوم عام 1976 كباقي الطلاب. وما أن حاز الكسندر على الشهادة الجامعية حتى قبل طلبه للعمل كمعيد في نفس الجامعة، بالاضافة إلى تحضيراته للدراسات العليا.
عام 1981 بدأ الكسندر يتردد بانتظام إلى اثنين من بيوت الأطفال، فشكلت له هذه الزيارات الحقل التجريبي الأول لبحوثه في الانسانيات وعلم النفس، وبعد ست سنوات من العمل التفاعلي مع الأطفال من معوقين وغير معوقين، انتقل الكسندر عام 1987 للعمل مع فرق الكشافة في مخيماتهم الصيفية، هادفاً إلى التأكد من قدرات المربي المكفوف الأصم على التكيف مع العمل اليومي وسط المبصرين السامعين. نجحت تجربة الكسندر ودعي إلى التدريب في مخيم 1988، واستطاع اشراك أربعة من الأطفال المكفوفين الصم في المخيم الذي دربهم فيه كخطوة دامجة لهم. وعند ذاك قال سوفوروف كلمته الشهيرة quot;هكذا بدأتquot;. نشر الكسندر تجربته هذه من خلال فيلم سينمائي حمل عنوان quot;لمسةquot; عام 1986 من اخراج الفيس آرلأوسكاسكي، وقد عرض هذا الفيلم مرات عديدة على الشاشة الصغيرة. عام 1991 حصل الكسندر على درجة العالمية في العلوم الانسانية من جامعات بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأميركية، في هذا الوقت كانت مؤلفاته وتجاربه في التربية الدامجة للمعوقين قد انتشرت في انحاء روسيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق، وغدا مستشاراً تربوياً لدى العديد من الجمعيات الأهلية والأكاديمية. عام 1994 قدم الكسندر اطروحته إلى الجامعة الروسية تحت عنوان quot;البناء الذاتي للشخصية لدى المكفوفين الصم في أمس الظروفquot;. وعام 1996حاز درجة العالمية للمرة الثانية بعد تقديمه لرسالته quot;الأنسنة كعامل لبناء الشخصية الذاتيquot;. مبتدئاً بتدريس الطلاب من ضعاف السمع في كلية لينين الخاصة.

حصل الكسندر على جهار الكومبيوتر المجهز الخاص به عام 1996، فحصل بذلك على قدرة غير محدودة مع الاستقلالية في التأليف والإنتاج والإبداع. في العام نفسه بدأ سوفوروف التعليم في كلية الأنتربولوجيا في الجامعة محاضراً وباحثاً في علم الإنسان التعليمي، وقد تخرج على يديه آلاف الطلاب، في هذا الوقت كان الكسندر يقوم بنشر مؤلفاته العلمية في العلوم الثلاثة التي ألمّ بها منطلقاً من علم النفس إلى الانتربولوجيا مقولباً مؤلفاته في قالب علم الاجتماع مع ملاحظة دقيقة لحاجات الأشخاص المعوقين وقدراتهم. وقد ضمت المكتبة الجامعية من مؤلفاته عشرات الكتب، والبحوث، والمحاضرات، والتعليقات. بالإضافة إلى مئات الجوائز العلمية والأوسمة التقديرية من منظمات وهيئات مختلفة، فقد انضم سوفوروف عام 1999 في عداد أعضاء الأكاديمية العالمية للتدريب في الأمم المتحدة. منذ العام 2000 ينشر الكسندر بحوثه وكتبه بشكلها الإلكتروني على موقعه الذي يخصص وقتاً من مساءاته للاهتمام به وللرد على الرسائل الكثيرة التي ترده من طلاب وأصدقاء في كل أنحاء العالم. قبل شهر تقريباً، أطل الكسندر مع المشاهدين من خلال ريبورتاج خاص على القناة الروسية الأولى، استانكينا، وهو يبدو بصحة جيدة يحاضر في طلاب علم النفس، ثم تتبعه الكاميرا إلى السوق، يعلق الكسندر ورقة على صدره كتب عليها quot;اذا أردتني أن أفهمك فاكتب باصبعك على كفيquot; تستوقفه سيدة فتأخذ يده وتكتب عليها، فيجيبها بصوته الثابت وابتسامته.. ثم يتسوق ليعود إلى حاسوبه المنزلي.