صلاح حسن من أمستردام: في حي تسكنه أغلبية من المهاجرين كانت هناك كنيسة تحولت إلى جامع يحضر للصلاة فيه الغرباء بعد إن قام بشرائها مسلمون من اندنوسيا. تجمهر أمام هذا الجامع خليط من المسلمين الأتراك والمغاربة والاندنوسيين وحتى الهولنديين الذين دخلوا إلى الإسلام بعد كارثة 11 أيلول. كانوا يتبادلون التهاني والقبل وهم يدخلون ويخرجون من الجامع الذي غص بهم بلغاتهم المختلفة. المصريون والتونسيون يتحدثون العربية والمغاربة الامازيغية والبقية المختلطة يتحدثون الهولندية. سألنا بعض الحاضرين من الهولنديين المسلمين عن أجواء العيد وكيف وجدوها وهو شاب في العشرين وكان سعيدا للغاية فقال : اشعر بالفرح لان العيد جمعنا هنا كأخوة بغض النظر عن اللون والقومية واللغة، هنا لا تشعر بأي فرق سوى الإخوة. وحين سألناه متى أصبحت مسلما ؟ قال : منذ ثلاث سنوات بعد إن قرأت الكثير من الكتب عن الإسلام وساعدني في ذلك شيخ الجامع وبعض الإخوة من الشبان المسلمين.

في هذا الخليط من الناس يتميز المصريون والعراقيون عن باقي الجاليات المسلمة لانهم لا يرتدون الزي الاسلامي الذي تنص عليه الشريعة كما يفهمها بعض الراديكاليين وهم فوق ذلك لا يطيلون لحاهم كما يفعل المغاربة أو الافغان وبعض الجاليات المسلمة. انهم يرتدون الملابس العادية ولا يثيرون فضول الناس.


في جانب أخر من المدينة عندما حاولنا الاتصال بأحد الأشخاص الذين نعرف أنهم يستعدون لمثل هذه المناسبات منذ فترة مبكرة فوجئنا بزوجته التي أخبرتنا إن زوجها مازال في العمل وهي ذاهبة بعد قليل لجلب ابنهامن المدرسة. في العادة يأخذ الرجل إجازة في مثل هذه المناسبات لكن صاحبنا تخلى عن هذه العادة ولم يعد يطلب إجازة لأنه ببساطة نسي كل شيء يتعلق بالأعياد أو المناسبات السعيدة حتى ابنه فضل الذهاب إلى المدرسة بدل العيد الذي لا يعرف عنه أي شيء. الزوجة كانت مرتبكة قليلا لأنه ينبغي عليها إن تتصل بأهلها في العراق وبعض الأقارب الذين يعيشون في سوريا بعد إن هجروا من منازلهم قبل سنتين.

يبدو إن العراقيين قد نسوا كل شيء يتعلق بالفرح وما عاد أي شيء في هذه الدنيا يستطيع إن يدخل البهجة إلى أرواحهم بعد هذه الويلات التي حلت بهم طيلة سنوات النار التي امتدت إلى قرابة الأربعين عاما. كل الذين تحدثنا إليهم أو زرناهم في بيوتهم كانت لهم وجهات نظر متقاربة وتصب في قضية واحدة هي حال العراق اليوم وما يتعرض له العراقي في داخل الوطن وخارجه. مثقفون وفنانون تحدثوا بصراحة عن هذه المناسبة وأناس عاديون أدلوا بدلوهم أيضا لكن الاختلاف في وجهات النظر لم يكن واسعا كما يحدث عادة. في الزيارة التي قمنا بها إلى احد الأصدقاء الفنانين في مدينة أمستردام وجدنا انه قد دعا ضيوفا آخرين لم نكن نتوقع حضورهم وهو حضور عادي ولم يكن بسبب مناسبة العيد كما أشار هذا الصديق.

الضيوف أنفسهم أكدوا ذلك قبل إن نسألهم وابدوا رغبتهم في الحديث لكنهم امتنعوا عن ذكر أسمائهم حينما علموا إن هذه الدردشة سوف تنشر. أول الذين تحدثوا وهو كاتب كردي يساري ولايأكل اللحوم الحمراء قال : العيد بالنسبة لي لم يعد طقسا ولا تقليدا ولا حتى مناسبة اجتماعية، أنا هنا
بالمصادفة لأنني أعيش في لاهاي وجئت كي استمع إلى محاضرة جرت ليلة أمس. أنا اعتقد إن الطقوس التي تمارس في العيد هي طقوس وثنيةصوصا تقديم القرابين فقد كانت هذه الطقوس تمارس قبل الإسلام وكانت هذه القرابين تقدم إلى الأصنام ثم توزع على الناس. أي عيد هذا الذين تنحر في أيامه الأولى
مئات الحيوانات ؟ لقد اتصل بي أهلي وأقاربي من كردستان العراق.. أكثر من عشرين مكالمة من أفراد عائلتي وانتهى العيد بالنسبة لي عند هذا الحد.

رسام الكاريكاتير الكردي ريناس عارف تناول ظاهرة العيد برسوم كاريكاتيرية لا تخلو من نقد وطرافةورؤية كابوسية في الوقت نفسه وقال إن مناسبة العيد بالنسبة له تعني تناول المزيد من الطعام الشهيوالاستماع إلى الموسيقى الراقصة. في الأيام العادية وأيام العمل لا يملك الإنسان الوقت الكافي لإعداد مثل هي الأكلات الشهية، لذلك فأنا لا أفوت الفرصة وأتقبل جميع الدعوات التي توجه لي من اجل إن استمتعبالطعام اللذيذ. لكن ريناس عارف في المقابل لا يقيم أية مظاهر في هذه المناسبة حتى انه شخصيا لم يقدم لنا طعاما خاصا واكتفينا بالمشروبات.

لقد كنا نتوقع في هذا العيد المزيد من الولائم لكنا أصبنا بخيبة أمل خصوصا ونحن لا نجيد إعداد الأطعمة الشهية مثل التشريب والدولمة والكبة، وما زاد من هذه الخيبة إن الرجل الذي كنا نتوقع دعوة منه هو الأخر تخلى أو نسي فكرة الاحتفال بالعيد. شخص عليم بهذه المناسبات ويحضرها كلها تقريبا أشار علينا بالذهاب إلى المسجد التركي في وسط العاصمة لاهاي وقال إننا سنجد ضالتنا هناك، وقبل إن نصل إلى المسجد تدفق من بابه الكثير من الناس أغلبيتهم من الجالية التركية. حينما تحدثنا إليهم قالوا : لقد جئتم متأخرين لقد صلينا صلاة العيد وتبادلنا التهاني ثم تناولنا الطعام، غدا توجد صلاة ووليمة أيضا ولكن عليكم القدوم باكرا. إذن حتى هذه المناسبة فقدت معناها بالنسبة لهؤلاء وتحولت إلى quot; ولائم quot; ينفض بعدها كل إلى بيته وينتهي الأمر ببطون ممتلئة وأفراح باردة. عيد لا يصلح هنا فلا الزمان ولا المكان يشجع على الابتهاج.


هذا هو ثاني أيام العيد مر بطيئا ومملا وباردا في هولندا الباردة ومن العبث البحث عن الفرح لدى الغرباء الذين اكتفوا بشراء بطاقات التلفون الرخيصة بدل بطاقات التهنئة وكان جل ما تحدثوا عنه هو العودة إلى بلدانهم التي خرجوا منها سواء من كان منهم في خارج البلد أو داخله. العراقيون الذين التقيناهم ما زالوا يتذكرون الطرفة التي تتحدث عن استحالة حدوث بعض الأشياء وكانوا يعلقون عليها بالقول quot; بالعيد quot; فمثلا حين تسأل شخصا إذا كان ممكنا الحصول على بيت للإيجار في منطقة معينة وأنت تعرف إن هذا الأمر صعب التحقق حاليا فأن الجواب سيكون واضحا ولا يترك أي هامش للأمل. الجواب هو quot; بالعيد quot; يعني اغسل يدك ولا تحاول مرة ثانية.