إسماعيل دبارة من غمراسن- الجنوب التونسي: قد يستغرب قارئ هذا التحقيق من ورود لفظة (paris2) أو باريس الثانية، فمن المؤكد أنه لم يسمع قطّ بباريس أخرى غير العاصمة الفرنسية الشهيرة. في تونس الأمر يختلف فباريس الثانية تحيل إلى معتمديّة تقع في أقصى الجنوب التونسي و تحديدا في محافظة تطاوين الصحراوية البعيدة.

غمراسن 20 كيلومترا شرقا من محافظة تطاوين الصحراوية و 520 كيلومترا إلى جنوب من العاصمة تونس، كلمة بربرية تعني سيّد القوم، ولساءل أن يتساءل ما وجه الشبه بين معتمديّة لا يتجاوز عدد سكانها الثمانين ألف ساكن و العاصمة الفرنسية باريس.
هنا يفسّر لإيلاف الحاجّ lsquo;عبد الستّار لشيهبrsquo; أحد شيوخ غمراسن و ربما أكبرهم سنا (97 سنة): و الله ما سمعنا بهذه التسمية إلا منذ سنوات قليلة...استغربت في البداية لكننا تعودنا عليها اليوم ولم لا، فغمراسن لا يمكن أن تكون إلا باريس الثانية، اشتغلت في باريس الحقيقية لمدّة 35 سنة و شخصيا لا فرق عندي بينهما...الجيل الثاني و الثالث هنا يرجع التسمية إلى شهرة غمراسن بكثرة مواطنيها في الخارج وخصوصا من يعيشون في فرنسا ويحملون جنسيتها'.
تتميز معتمدية 'غمراسن' بطبيعية جبليّة خلابة و تحتوي هذه الجبال على أحافير غارقة في القدم ممّا مكن علماء الآثار سنة 1997 من اكتشاف بقايا لحيوان الديناصور المنقرض فانتعشت تبعا لذلك السياحة في تلك المناطق الجبلية التي تحوي قصورا عتيقة تعود إلى قرون خلت و تمثّل ميزة سياحية فريدة من نوعها.
إحصائيات بلدية 'غمراسن' تشير إلى أن 75 بالمائة من سكان المعتمدية الأصليين هم في الخارج أما 25 بالمائة المتبقين فلهم بالتأكيد شخصان أو أكثر في أوروبا.

quot; كثرة مهاجري 'غمراسن' إلى الدول الأوروبية و خصوصا إلى فرنسا يبدو وراثيا..آباؤنا و أجدادنا سافروا قبل حتى الاستعمار الفرنسي إلى الدول الأوروبية لكسب قوت اليوم،يقول 'سعد التّايب' أصيل مدينة 'غمراسن' و القاطن طوال السنة بفرنسا لإيلاف ويضيف:' ربما كانت الظاهرة مقتصرة على بعض رجال غمراسن من ذوي الجرأة و القدرة على تحمّل الغربة آنذاك قبل أن تُأتي العملية أكلها و يسارع أهل غمراسن إلى الهجرة إلى الغرب و خصوصا إلى فرنسا حيث توجد أحياء بأكملها هناك للغمراسنيّة (نسبة إلى سكان غمراسن)quot;.
معظم التونسيين أصيلي مدينة 'غمراسن' و المقيمون بالخارج هم من حملة الجنسية البلد الذي يقيمون فيه. يعودون صيفا لمدة شهر أو شهرين إلى منازلهم الجميلة التي تجمع بين الطابع العربي و الغربي في تناسق جميل للغاية لكنّها تضلّ مغلقة طوال السنة.
ينظر إلى تلك 'العمارات ' الشاب خالد 25 سنة و هو ممن لم يسعفهم الحظ بعد في الالتحاق بوالده و أخويه إلى فرنسا. يقول لإيلاف:'من المؤسف حقا أن تضلّ تلك القصور و العمارات مغلقة و حزينة طوال السنة في انتظار أن يأتي القوم من باريس لإعادة الأمل و الحياة إليها.هم يرفضون تسويغها لأي كان لأن الغمراسنيّة يحترزون كثيرا من الغرباء عن مدينتهم و حاصل بينهم شبه وفاق على عدم تسليم أغراضهم و ممتلكاتهم لأي كان.'
حكاية الفطيرة الغمراسنية لا يمكن أن يغفل عنها زائر هذه المدينة، فطيرة مستديرة ساخنة سهلة التحضير تمثلّ مهنة اساسية لآلاف المتساكنين بل و في باريس الحقيقية ذاتها لا يمكن لبائع الفطائر أو 'الفطائري' إلا أن يكون أصيل غمراسن أو باريس الثانية.
أما مراسم الزواج التي يعود المهاجرون إليها خصيصا فهي إلى اليوم تحمل الطابع البربري والصحراوي الخالصين.

حولها تحدثنا الخالة 'زهرة بن جراد' بالتفصيل: تمتدّ أعراس الغمراسنيّة على 3 أيام متواصلة.
اليوم الأول و يسمى يوم 'الحنة' أو 'الغربلة' يعدّ فيه أهل العروس آو العريس مؤنه العرس كاملة من سميد أو كسكسي أو زيت آو أدام و غيره. وفي اليوم نفسه تذهب العروس صحبة بعض المقربين إليها من الإناث إلى الحمام العمومي، وعند خروجهّن من المنزل ينطلقن في ترديد بعض الأغاني و الزغاريد على إيقاع 'الدربوكة' (آلة موسيقية تقليدية) إلى أن يصلن إلى الحمام.
اليوم الثاني هو يوم 'الكسوة'، و يخرج quot;المحفلquot; من دار العريس على أنغام الطبل والمزمار مصحوبا بسيارة محملة ببعض المواد الغذائية والخرفان و الملابس وبعض المستلزمات الخاصة بالعروس كالحناء و مواد التجميل الباهضة الثمن، والأحذية والحلويات و الذهب.ويقوم المحفل بجولة قصيرة عبر أحياء المدينة، وحال الوصول إلى دار العروس تدخل النسوة إلى المنزل ويبقى الرجال و'الطبّال' خارجه وتكون ضمن النسوة امرأة مسنّة تتكفل بفتح quot;الكسوةquot; و تقديمها إلى أم العريس.
و في ليل يوم الكسوة تنتقل العروس إلى بيت العريس لحضور حفلة ليلية صاخبة يؤمنها 'الطبّالة' و لا أحد غيرهم، إلا أننا اليوم بدأنا في التعرض إلى بعض المظاهر الدخيلة كالفرق الموسيقية الحديثة و صالونات الأفراح الراقية التي تنظم فيها حفلات عصرية غريبة عنا.
و أما الطبل فهو الأساس في كل عرس يرقص على أنغامه الشباب الحاضر و العريس و أصحابه و في ساعة متأخرة من الليل تُعاد العروس إلى بيت أهلها و نكون بذلك أنهينا اليوم الثاني.

اليوم الأخير أو يوم 'الجحفة'، فيه يعدّ أهل العروس مأدبة الكسكسى للضيوف و في آخر النهار يأتي أهل العروس بمعية عدد كبير من السيارات و الشاحنات لحمل العروس و 'جهازها' و الجهاز هي تلك الهدايا و المواد الأساسية التي سيستعملها الزوجان في الأيام الأولى لحياتهما الزوجية كالملابس و الصياغة و الحلي و الأحذية وبعض الهدايا التي تصلح للاستعمال المنزلي.quot;
الخالة زهرة لا تريد من يقاطعها و هي ترتب أفكارها لتتحدث عن مسيرة العروس 'الغمراسنية' إلى بيت زوجها، لكن كان لا بدّ من المقاطعة لنتوقف على الكسكسي الذي تشتهر به البلاد التونسية وليس غمراسن فقط.
تقول شارحة طريقة تحضيره:'لنا في تونس أنواع كثيرة من الكسكسي و ذلك استنادا إلى اللحوم التي ستطهى معه لحم الخروف أو الدجاج أو السمك او الإخطبوط أو الحبّار أو 'المسفوف' وهو الكسكسي الحلو، ولا يطهى إلا عبر قدر خاص يسمى 'الكسكاس' إذ يقوم النسوة بتحريك أصابعهن في إناء واسع لفصل الحبات عن بعضها حتى لا تلتصق من جديد ثم نعيدها للكسكاس ليطبخ على البخار فقط. في حين يطهى المرق في إناء منفصل قبل أن يتم خلطهما في 'التبسي' و نزينّه بعد ذلك بالخضار واللحم والحمص والفلفل و البطاطا المقليّة.

منتصف أغسطس/ آب و الأيام القليلة التي تليه تكون عادة موعدا ليلملم 'الغمراسنيون' العائدون من أوروبا أغراضهم استعدادا للعودة إلى مراكز عملهم و سكناهم بعد انتهاء أشهر العطلة المليئة بالأعراس و الاستجمام على شواطئ بحار 'جربة' و'جرجيس' و 'سوسة' و 'الرفراف'.
و تقول الآنسة هاجر 24 سنة :'و كأنّ لعنة تصيب 'غمراسن' بعد أن يغادرنا المهاجرون، لا تغرنّكم الأجواء الاحتفالية التي عايشتموها هذه الأيام فكل ذلك سيصبح بالنسبة لنا حلما جميلا مع حلول موعد رحيل حملة الجنسية الأوروبية و نبقى نحن نذرف دموع الاشتياق إليهم و إلى أجوائهم المرحة على أمل العودة في الصيف المقبل.'