استوكهولم: عانت (أم نصير)، وهي عراقية وصلت السويد قبل ثلاثة أعوام، كثيرا حتى استطاعت ان تكيف طفلها الصغير (نصير) مع الأجواء الجديدة في بلاد يستمر فيها النهار بلا ليل لأشهر، مبينة أنه كان يصعب عليها إقناعه في البداية بوجوب ذهابه الى النوم والشمس لا تزال في كبد السماء.
وتصف أم نصير (39 عاماً) معاناتها للوكالة المستقلة للأنباء (أصوات العراق) وهي تبتسم quot;اضطررت الى شراء ستائر سميكة وداكنة اللون كنت أعمد الى اسدالها قُبيل نوم ولدي نصير ذي التسعة أعوام تمهيداً لاقناعه بأن وقت النوم حان..quot;.


مشكلة الطفل نصير في التكيف واجهت عشرات الآلاف من العراقيين في هذا البلد الأوروبي الشمالي، حيث يصعب على العراقيين الذين اعتادوا تعاقب الليل والنهار في بلدهم، والاحتراق بشمسه الكاوية في معظم أشهر السنة، التأقلم والتكيف مع أجواء السويد الواقعة في الجزء الغربي من شبه الجزيرة الاسكندنافية بنهاراته المضيئة الطويلة والمستمرة خلال الأربع والعشرين ساعة من ساعات اليوم الواحد في فصل الصيف، ولياليه المعتمة والباردة خلال فصل الشتاء الطويل.


ومن يسمع عن أن الشمس لا تغيب خلال فترة الصيف القصيرة في شمالي اوروبا ولم تسنح له الفرصة لمعايشة الامر قد يتصور نفسه بأنه يستمع الى قصة من قصص الف ليلة وليلة غير ان هذا هو حال الدول الأسكندنافية ومنها السويد التي يعاني العراقيون المهاجرون إليها من التكيف مع شمس منتصف الليل.


ويتناقل المغتربون العراقيون في السويد، الذين يشكلون أكبر جالية عراقية في أوروبا وثاني أكبر جالية أجنبية في السويد، عن أفراد عائلاتهم قصصا ومواقف طريفة عما واجهوه من مصاعب للتأقلم والوسائل التي اتخذوها للتكيف مع الوضع الجديد، إذ تعمد الكثير من العائلات العراقية الى شراء ستائر داكنة خلال فصل الصيف تغطي بها نوافذها لتحجب ضوء النار المارة من خلالها تهيئة لأجواء النوم التقليدية التي اعتادتها.


ويزيد عدد ساعات النهار في السويد ابتداءً من أواخر شهر ايار مايو وتصل اعلى معدلاتها في 21 حزيران يونيو وهو تاريخ يحتفل به السويديون لأنه يمثل منتصف الصيف ويتواصل النهار بضوئه مع الليل خلال هذا الوقت وتنعدم الظلمة لتنحسر في جو هو اشبه بـوقت quot;الغروبquot; في العراق يبدأ عند منتصف الليل في الساعة الثانية عشرة متجاوزاً الساعة الواحدة بعد المنتصف بقليل ليعاود النهار ظهوره من جديد وكأن صباحاً آخر قد بدأ.
وتستمر الحالة هذه وتزداد كلما تم التوجه شمالاً حيث تبدو أكثر وضوحاً في مدن السويد الشمالية وحتى اواخر تموز يوليو اذ يبدأ الليل بعد ذلك بمعاودة ظهوره ثانية تمهيداً للخريف والشتاء الذي يندر ظهور الشمس فيه.


وتجد المهاجرة العراقية ام مروة المقيمة في شمال السويد صعوبة كبيرة في اقناع طفلتها مروة بأن موعد ذهابها الى الروضة quot;صباحاquot; قد حان، لتنتظرها صعوبة اخرى وهي تجيء بها quot;مساءًquot; إذ تعتقد الطفلة بأن أمها قد تركتها وبأن الظلام حل، وتبدأ بالصراخ والبكاء حال لقائها بها من جديد.
ولا تمتلك أم مروة (33 عاما) جواباً مقنعاً على سؤال ابنتها ذات الخمسة أعوام حول سبب ذهابها وإيابها الى ومن الروضة في الليل،
وتشرح الأم معاناتها بالقول إنه لا تسنح لابنتها الصغيرة الفرصة لرؤية نور النهار القصير جدا لأنه يكون قد ظهر واختفى ولم تشاهده، وفهم ذلك يصعب على طفلة في الخامسة من عمرها.


وتقول السيدة العراقية لـ(اصوات العراق) quot;الحقيقة انه لا غبار على حديث ابنتي مروة ففي فصلي الخريف والشتاء تضيء النهارات بضوء الشمس المحتجب خلف طبقة من الغيوم في وقت متأخر، بينما تظلم في وقت مبكر وتزداد هذه الحالات وضوحاً كلما توجهنا نحو المدن الواقعة في الشمال السويديquot;.
وتنتشر العائلات العراقية المغتربة في عموم مدن السويد ومناطقها، وتتركز غالبيتهم الساحقة في العاصمة ستوكهولم والمدن الجنوبية كـ quot;يوتوبوريquot; و quot;مالموquot; بالأضافة الى quot;لينشوبنغquot; نظراً لأرتفاع درجة حرارة بعضها عن مدن الشمال السويدي وكونها من كبريات المدن السويدية.
والأطفال هم الشريحة الأكثر تأثراً بالتغيرات المناخية، وبالضرورة يقع العبء الأكبر على عائلاتهم التي يستوجب عليها مساعدتهم في التكيف مع الأجواء المناخية الجديدة بطرق سهلة يتقبلها الاطفال دون ان يؤثر ذلك فيهم سلباً.


تقول ندى خليل (42 عاماً) وهي عراقية تعمل كباحثة اجتماعية في احدى المدارس السويدية ان تأثير المتغيرات المناخية الجديدة على الأطفال يمكن لها ان تكون سلبية اذا لم ينتبه الوالدان الى ضرورة الحديث مع ابنائهم عن الوضع والمناخ الجديدين والتحاور معهم بطريقة quot;سهلةquot; و quot;ممتعةquot; تساعدهم في تقبل واقعهم الجديد كخطوة اولى في عملية الاندماج التي يسعون اليها.


وتوضح لـ (اصوات العراق) ان quot;الأطفال الذين هم دون سن العاشرة يمكن لهم أن يتكيفوا أسرع مع التغيرات المناخية من الذين هم في سن المراهقة ولديهم ذكريات حية من أوطانهم، مشددة على أهمية دور الوالدين والمشرفين التربويين في quot;السرعةquot; التي يتكيف بها الطفل مع مستجداته الحياتيةquot;.
ولم تكن السويد التي تصدرت مع المانيا قائمة الدول الاكثر محافظة على المناخ بمعزل عن التغيرات الحاصلة على مناخ الكرة الأرضية بشكل عام جراء الانحباس الحراري ووجود ثقب الاوزون اذ كانت هذه الظاهرة تبدو اكثر وضوحاً مما هي عليه الان، وبينما كانت الثلوج تبدأ بالتساقط من شهر تشرين الأول (اكتوبر) مستمرة حتى اواخر نيسان ابريل غير ان في السنوات القليلة الماضية وبسبب ارتفاع درجة حرارة الكرة الأرضية انخفضت كميات الثلوج المتساقطة في السويد وبدأت الحرارة ترتفع في الصيف ضمن معدلات لم يشهدها البلد سابقاً مما يعتبره السويديون سابقة خطرة تستوجب المعالجة السريعة.


ويعتبر شهر تشرين الثاني نوفمبر من أكثر الأشهر الباعثة على quot;السأمquot; و quot;المللquot; في السويد اذ يأكل ظلام الليل معظم النهار وتغرق الأيام في ظلامات دامسة بانتظار ان يحل الفرج بسقوط الثلوج حيث تلبس الطبيعة حينها رداءها الأبيض مخففة من وطأة الليل الطويل الذي عاشته.
ولا تقتصر الأوقات quot;الحرجةquot; في المناخ السويدي على فصل الصيف فقط ولياليه المضيئة بل تتجلى الصورة نفسها لكن بشكل معكوس على نهارات الشتاء المظلمة والتي يختفي فيها الضوء في الكثير من المرات حتى ساعات الظهيرة بعدها يبدأ ضوء النهار بالظهور ساعات قليلة لا تزيد عن ثلاث او أربع ساعات في أفضل الأحوال ليرجع الليل باكراً ويغطي بردائه الكحلي عباب السماء.


وتستلذ العائلات العراقية الاستراحة ومد موائدها التي تفوح منها رائحة الشواء خلال موسم الصيف على شواطئ البحيرات الواسعة والمنتشرة في المدن السويدية ولأوقات متأخرة بعد منتصف الليل ولا يستدل الكثير منهم على الوقت إلا بالنظر الى الساعة.
يقول أبو مروان (45 عاماً) ان عائلته تنتظر قدوم فصل الصيف بفرح كبير اذ تعوض فيه فترة الشتاء القاسية وتسنح له الفرصة للتمتع بجمال الطبيعية ونقاوتها في هذا الموسم.


وقال لـ(اصوات العراق) quot;أخرج مع عائلتي في أيام العطل (السبت والأحد) للتنزه على سواحل الشطآن وحتى وقت متأخر من الليل الذي يضيف بطلته النهارية جاذبية ومتعة للجلسةquot;.


وتنتشر في السويد وفي غاباتها الواسعة والكثيفة أماكن خاصة للشواء اذ تلتف المصطبات الخشبية حول مواقد الشواء التي تستخدم الفحم وتحيط بها مساحات مخصصة للعب الأطفال، الا ان طول النهارات في فصل الصيف وقصرها في فصل الشتاء يثير quot;الشجنquot; لدى العائلات العراقية التي لم تعتد العيش في مثل هذه الاجواء.


وتقارب مساحة السويد مساحة العراق تقريباً اذ تبلغ مساحة الأولى حوالى 449.964 كم مربع وتحتل المرتبة الخامسة من حيث المساحة في اوروبا بعد روسيا وفرنسا واسبانيا واوكرانيا.


ويتنوع مناخ السويد بسبب طول المسافة بين شمالها وجنوبها اذ يبلغ طولها 1574 كم، وتقع 15% بالمئة من مساحة السويد داخل الدائرة القطبية في ما يسمى بـ quot;أرض شمس منتصف الليلquot; بسبب استمرار شروق الشمس لفترة طويلة من فصل الصيف.


يقول الباحث الأجتماعي أيمن فريد (42 عاما) وهو عراقي غادر العراق الى السويد قبل عشرة أعوام ان quot;تقبل الفرد للتغيرات المناخية الغريبة عليه هي أولى خطوات الاندماج التي لابد منهاquot;.


ويضيف لـ(اصوات العراق) ان العائلات العراقية المهاجرة التي تصل السويد في فصل الصيف تجد نفسها أكثر تحملاً للصعوبات المناخية التي تواجهها في فصل الشتاء لأن quot;الأنطباع الأول لدى الفرد عن البلد الذي يصل اليه للمرة الأولى يبقى مخزوناً في الذاكرة، وعليه يعتمد تقبله للتغيرات المناخية التي تعقب ذلكquot;.


وتابع ان quot;أسباب الهجرة ورغبة الفردquot; يساهمان في quot;سهولةquot; او quot;صعوبةquot; تكيف الفرد مع المتغيرات المناخية والاجتماعية.
ويوضح فريد فكرته بالقول إن quot;المُهجّرquot; لأسباب ودوافع خارجية تكون الهجرة ضماناً لاستمرار حياته، وهو يختلف عن quot;المهاجرquot; بدوافع وأسباب ذاتية؛ اذ يضطر الأول الى تحمل quot;المصاعبquot; وquot;المتغيراتquot; لانعدام الخيارات بينما قد quot;تتغيرquot; قناعات الثاني بعد فترة ليجد نفسه أمام مفترق طريق لا هو بقادر على التراجع عنه ولا التقدم خطوة نحو الأمام.