كتاب جديد يكشف كيف نُسجت علاقة أخوية بين صاحب أعلى سلطة في الكنيسة الكاثوليكية والشيخ أحمد الطيب، الإمام الأكبر للمسلمين السنة في العالم الإسلامي

إيلاف من بيروت: "البابا والإمام الأكبر: طريق شائك" كتاب يرسم معالم التاريخ السري لصداقة البابا فرانسيس والشيخ أحمد الطيب، ويكشف كيف نُسجت علاقة أخوية بين صاحب أعلى سلطة في الكنيسة الكاثوليكية والإمام الأكبر للمسلمين السنة في العالم الإسلامي.

تقول الصحافية الأرجنتينية إليزابيتا بيكيه، مراسلة صحيفة "لا ناسيون" الأرجنتينية في حاضرة الفاتيكان، إنه في السابع من نوفمبر 2017، وقبل تناول ذاك الغداء غير المتوقع في سانتا مارتا من سمك وخضروات مشوية ومثلجات وقهوة، أخذ البابا فرانسيس قطعة خبز وقسمها إلى نصفين، تناول هو نصفها، وأعطى النصف الآخر للإمام الأكبر، في إشارة واضحة للتعايش والأخوة الإنسانية.

صداقة غير مسبوقة

تلك اللحظة التي لم يكن من الممكن تصورها قبل سنوات، هي جزء من التاريخ السري لكيفية نشأة الصداقة غير المسبوقة بين البابا فرانسيس والإمام الأكبر أحمد الطيب، شيخ الأزهر، أحد أهم المراكز الثقافية للإسلام، وهو بمثابة "فاتيكان" المسلمين السنة الذين يشكلون الأغلبية العظمى للعالم الإسلامي.

في فبراير 2019، وقّع البابا والإمام الأكبر في أبو ظبي وثيقة تاريخية للأخوة الإنسانية، يعتبرها البابا، جنبا إلى جنب مع الرهبنة الفرنسسكانية للقديس فرانسيس الأسيزي، أحد أهم مُلهماته للرسالة البابوية الأخيرة "كلنا أخوةٌ"، والتي تُأسس للأخوة والصداقة الاجتماعية.

في هذا الكتاب، يكشف القاضي المصري الشاب محمد عبد السلام، المستشار السابق للإمام الأكبر، عن تفاصيل يجهلها الكثيرون حول تطور العلاقة بين البابا فرانسيس والإمام الأكبر . كان عبد السلام شخصية معروفة، إذ أصبح أول مسلم يقدم للمنشور البابوي للحبر الأعظم في حدث رسمي بالفاتيكان في الرابع من أكتوبر 2020.

كلنا أخوة

لم يكن عبد السلام شاهدا رئيسًا على كيفية نسج الصداقة بين زعيمين روحانيين عظيمين لدينين سماويين يتبعهما ملايين المؤمنين حول العالم فحسب، بل لعب دورًا أساسيًا في تكوين تلك الصداقة إلى درجة أن البابا وصفه في العلن مرتين بأنه "ولد رهيب".

يصف عبد السلام بحماس في كتابه، الذي أجاز طباعته الزعيمان الدينيان، كيف بنيت صداقة لم تكن بالحسبان قبل سنوات. صداقة قامت على الإرادة والحدس والتعاطف والتواضع و"القلب الرحب"، إضافة إلى اهتمامٍ مشترك بعالم يقف على حافة الهاوية تتفاقم فيه الصراعات والحروب والإرهاب الديني المتشدد والتطرف والتعصب والظلم والفقر والإقصاء وأزمة لاجئين، فضلًا عن الآثار المدمرة لتغير المناخ.

إنها صداقة تصدح في السماء من أجل رسالة بسيطة مفادها.. "كلنا إخوة".

في مقابلة مع صحيفة "لا ناسيون"، أفصح عبد السلام عن تفاصيل لا يتضمنها الكتاب، حيث قال: "كل شيء بدأ في الثالث عشر من مارس 2013 عندما خرج الكاردينال الأرجنتيني غير المعروف آنذاك إلى شرفة كنيسة القديس بطرس، بعد تصاعد الدخان الأبيض، وقدم نفسه للعالم. حينها كنت بجوار الإمام الأكبر أشاهد الأخبار العاجلة عبر شاشة الهاتف."

رياح جديدة

هذه الصورة، التي أتت برياح جديدة، أطلقت العنان للإمام الأكبر لتغيير مسار الأمور. ذلك لم يكن بالأمر الهين في ذلك الحين، فالعلاقات بين الأزهر والفاتيكان كانت قد تجمدت منذ سبتمبر 2006، عندما اقتبس البابا الفخري بينيدكت السادس عشر، في محاضرة له في ريغنسبورغ، مقولة لإمبراطور روماني عن النبي محمد، سببت إهانة لكل المسلمين وأحدثت صدعًا في العلاقات الإسلامية والمسيحية.

إثر "المؤشرات الإيجابية" في اختيار ذلك الكاردينال القادم من الطرف الآخر للعالم، اقترح الإمام الأكبر، في اجتماع ضم عبد السلام وعدد من ذوي الثقة في نفس اليوم الثالث عشر من مارس، إرسال برقية تهنئة إلى البابا الجديد. إلا أن هذه الفكرة رفضت لأن العلاقات كانت متدهورة للغاية. وبدلًا من ذلك، تقرر إرسال برقية تهنئة إلى الكنيسة الكاثوليكية باسم الأزهر... ومن هنا بدأت إعادة العلاقات من جديد.

أمر البابا فرانسيس، الذي عندما كان رئيسًا لأساقفة بوينوس آيرس حيث تتعايش العقائد المختلفة دونما أي مشكلة، بإنشاء معهد للحوار بين الأديان فضلًا عن صداقته للشيخ المسلم عمر عبود؛ كان عند حسن الظن؛ فبعد أسابيع بعث ببرقية تهنئة للإمام الأكبر بمناسبة حلول شهر رمضان، وصف فيها المسلمين "بالإخوة"، وهي كلمة ذات مدلول عظيم.

تبرئة الإسلام

في الأشهر التالية، ظل عبد السلام والإمام الأكبر يتابعان عن كثب جهود هذا البابا الذي أعطى أولوية للفقراء والمهاجرين وأدان العنف في سوريا وذهب للأراضي المقدسة وطالب بحلّ للقضية الفلسطينية. وعلى الرغم مما شهدته العواصم الأوروبية من هجمات إرهابية لعناصر متطرفة، رفض البابا ربطها بالإسلام؛ فعندما سُئل في مؤتمر صحفي في بولندا في أغسطس 2016، قال: "ليس من الانصاف ربط الإسلام بالعنف".

في هذا الإطار، عُقد أول اجتماع بين البابا فرانسيس والإمام الأكبر، في القصر الرسولي للفاتيكان، في 23 مايو 2016. أذاب الاجتماع الجليد، وسرعان ما نضح اللقاء عن توافقات بين الرجلين ذوَي الديانة المختلفة، إلا أن لهما نفس الأفكار وأنماط الحياة. وأثمر أيضًا قرار البابا السفر للقاهرة في أبريل 2017 تلبية لدعوة الإمام الأكبر والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لحضور مؤتمر السلام العالمي الذي نظمته جامعة الأزهر.

جاءت الزيارة بعد أسابيع من هجمات دامية تبناها داعش ضد كنيستين قبطيتين. وبما أن الصورة تُغني عن ألف كلمة، يذكر عبد السلام في كتابه كيف انتشرت في تلك المناسبة صورة عناق البابا والإمام الأكبر. فتلك الصورة، طبقا لعبد السلام، أصبحت "أيقونة أمل".
بعد ستة أشهر فقط، تناول الرجلان في الفاتيكان الغداء الذي يعد نواة وثيقة أبو ظبي التاريخية للأخوة الانسانية.

في روما

سافر الإمام الأكبر، يرافقه عبد السلام، إلى روما للمشاركة في لقاء دولي. عندما علم البابا بوجودهما في المدينة، دعاهما إلى الفاتيكان. وبعد اللقاء الذي شارك فيه أيضًا السكرتير الخاص السابق للبابا، المونسنيور يوأنس لحظي جيد (كلمة سر أخرى في التاريخ السري للصداقة)، فاجأهما البابا فرانسيس (رئيس أساقفة بوينوس آيرس السابق) بدعوة لتناول الغداء، فقبلاها بالطبع.

وكما يروي عبد السلام، اقترح عليهما البابا أن يسيرا سويًا من القصر الرسولي إلى مقر إقامته بسانتا مارتا، ليطلعهما على جمال الفاتيكان: "سار الإمام الأكبر والبابا متشابكي الأيدي بطريقة أخوية للغاية... فمن الواضح أن البابا تجاهل البروتوكول الصارم للفاتيكان، وكذلك الإمام الأكبر تجاوز البروتوكول الرسمي والقيود الأخرى التى يفرضها المجلس الأعلى للأزهر. كان ذلك مؤشرًا واضحًا على أن الصداقة بين الإمام الأكبر والبابا قد تجاوزت الشكليات والمجاملات، لتجسد السلام والتعايش بين الأديان".

وخلال الغداء الذي استمر أكثر من ساعتين، تحدث الرجلان عن الصراعات التي لا حصر لها في كل مكان. بدأت الوجبة بالدعاء من أجل الإنسانية وتقاسمٍ أخوي للخبز، في جو أكثر من خاص، "تغمره الأخوة والإخلاص والحب"، كما يذكر عبد السلام.

هذا الجو من الألفة بين الصديقين حملهما على اقتراح كان مستحيلًا في وقت سابق. اقتراح من أجل الأجيال القادمة، يضع لها خارطة طريق للتسامح البشري في وجه التطرف.

بارعة وشائكة

فكرة الوثيقة هي فكرة بارعة و"طريقها شائك" بالتأكيد، إلا أنها لم تلق آذانًا صماء، بل أثارت حماس الصديقين لإعدادها بمساعدة عبد السلام والمونسنيور جيد، وسط تكتم مطلق. كان نص الوثيقة "سريًا للغاية" إلى أن وُقّع في أبو ظبي في 4 فبراير 2019.

عل الرغم من أن عبد السلام آثر في كتابه عدم التطرق إلى سبب غيابه وقت التوقيع المشترك على الوثيقة، التي شارك في إعدادها بشكل أساسي، والذي مثّل له علامة فارقة، إلا أن ذلك يرجع إلى ضغوط وانتقادات من القطاعات المنغلقة الحانقة التي لم تستطع هضم النهج غير المسبوق لتقارب زعيمين لديانتين سماويتين رئيسيتين، مما اضطره أيضًا لترك منصبه كمستشار للإمام الأكبر، بعد أكثر من ثمانية أعوام.

ومع ذلك، كما يذكر في كتابه، أول ما فعله الصديقان إثر توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية هو الاتصال به عبر الهاتف لشكره على دوره الأساسي في تحقيق هذا الحلم.


الأصل منشور على الرابط:
https://www.lanacion.com.ar/el-mundo/la-historia-secreta-de-la-amistad-del-papa-francisco-y-el-gran-iman-nid09052021/