إيلاف من بيروت: صدرت عن مركز تكوين للدراسات والأبحاث - السعودية بالتزامن مع معرض الرياض الدولي للكتاب الترجمة العربية لكتاب فضاء المقدس لا يعرف الفراغ: تاريخ الإلحاد السوفيتي (560 صفحة بالقطع الكبير) وهو أطروحة أكاديمية للباحثة الروسية فيكتوريا سمولكين بعنوان A Sacred Space Is Never Empty: A History of Soviet Atheism (منشورات جامعة برينستون)، وترجمه إلى العربية وقدم له الباحث المصري ممدوح الشيخ.

كتبت المؤلفة الكتاب للمرة الأولى كأطروحة حصلت بها على درجة دكتوراه الفلسفة في التاريخ من جامعة كاليفورنيا في عام 2010، ثم قامت توسيع الحقبة التاريخية التي تغطيها الدراسة وأعادت إصداره في عام 2018. وتتصدر مقدمة المؤلف عبارة نصها: "بحلول نهاية الحقبة السوفيتية، كان الروس شعبًا مشوهًا دينيًا، تعرضوا لأضرار جسيمة، على المستويين الفردي والمؤسسي، بسبب عقود الإلحاد التي رعاها الحزب".

واستعرض المترجم في ترجمته ملامح عودة الدين إلى الحياة العامة في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، مطلع تسعينات القرن الماضي. ويستشهد ممدوح الشيخ برسالة مفتوحة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول "تغلغل الكنيسة الروسية الواسع في جميع مجالات الحياة الاجتماعية"، وقد وجهها في يوليو 2007 علماء روس، بينهم الحائزان على جائزة نوبل للفيزياء: فيتالي غينزبورغ وجوريس ألفيوروف، وانتقد موقعوها تغطية الإعلام المتحمسة للشعائر الدينية التي يشارك فيها رجال الدولة، بينما الكنيسة تتغلغل تقريبًا في جميع مؤسسات السلطة.

تعليم الإلحاد

يتناول الكتاب تعليم الإلحاد السوفياتي وطقوس دورة الحياة الاشتراكية في فترة ما بعد الحرب. ويتبع السرد دورتين مختلفتين متداخلتين في الحياة: دورة الإلحاد العلمي الماركسي اللينيني، حيث جرت محاولة لملء الفراغ الذي كان يشغله الدين بمحتوى روحي سوفياتي واضح، ودورة حياة المواطن السوفياتي الذي تم ترتيب حياته بهدف جعلها ذات مغزى عبر معتقدات وطقوس سوفياتية.

ناقشت سمولكين جهود الدولة السوفياتية لوراثة المؤسسات الدينية، ودرست أسباب فشل الإلحاد رغم أجندته الأيديولوجية الشاملة، ورغم الطقوس الاشتراكية التي اختُرعت ونُشرت على نطاق واسع حتى عصر خروتشوف. وقد أصبح الأيديولوجيون السوفييت – متأخرًا – أكثر وعيًا بالتناقضات التي كشفت عن نفسها عندما حاولوا تحويل المعتقدات والطقوس الأيديولوجية إلى قناعات وممارسات يومية. ونتيجة لذلك، أصبح الاهتمام المتجدد بالحياة الروحية لـ "المادة البشرية" للثورة مركزيًا لتفسيرات الماركسية اللينينية، وكذلك لمصير التجربة السياسية السوفياتية.

درست فيكتوريا سمولكين في أطروحتها الأكاديمية على نطاق أوسع، أهمية طقوس المجتمع الحديث ووظائفها، وكما حاولت أن تقيم مدى قدرة الدولة السوفياتية على توجيه هذا الجانب من حياة الفرد والمجتمع.

الطبيعة الإلحادية

الكتاب لا يشمل دراسة "نظرية" للإلحاد، وبدلًا من ذلك يقدم سردية شديدة الثراء لحقبة أخفيت الكثير من وثائقها لعشرات السنين، وكانت موضوعًا للإنكار والنفي المتكرر في أدبيات عديدة استهدفت نفي الطبيعة الإلحادية للتجربة السوفياتية، ومن الحقائق المؤسفة أن المكتبة العربية كان نصيبها كبيرًا من هذه الكتابات المضللة التي استهدفت بشكل مقصود "تبييض وجه الشيوعية". وبسبب غياب هذا الجانب النظري مر المترجم في مقدمته على بعض المفاهيم الرئيسة في الإلحاد الشيوعي. وبحسب "المعجم العلمي للمعتقدات الدينية" هو "ثمرة جهد مجموعة من العلماء والمتخصصين من الاتحاد السوفياتي والبلدان الاشتراكية استغرق عدة سنوات"، "مركزية الإنسان في الكون" هي "مفهوم ديني مثالي يضع الإنسان في مركز الكون ويجعل منه الغاية النهائية من خلقه. وتؤكد هذه النظرية أن هناك أهدافًا وذرائع موضوعية متعالية عن البشر (إلهية) وراء خلق العالم .. .. .. .. وقد يتمثل الشكل النهائي لنظرية "مركزية الإنسان في الكون" في اليهودية والمسيحية والإسلام. وقد قوض العلم الطبيعي – ممثلا في كوبرنيكوس وجاليليو ودارون وأينشتين – جنبًا إلى جنب مع الفلسفة المادية، أسس هذه النظرية".

و"الإلحاد الماركسي" هو "مرحلة جديدة من حيث الكيف في تطور الفكر الإلحادي، . .. .. وظهر بوصفه النظرية العلمية الحقة التي تعبر عن مصالح تلك القوة الثورية والتقدمية (أي الطبقة العاملة) على نحو متماسك ومتسق. ويصف لينين جوهر الإلحاد بقوله: "الماركسية هي المادية وهي بصفتها تلك مناهضة على نحو لا يعرف الهوادة للدين".

الشخص السوفياتي الجديد

من بين سمات المجتمع الشيوعي التي لفتت نظر المراقبين الغربيين باستمرار كانت السياسة السوفياتية الطموح التي تهدف إلى تغيير الشخصية البشرية. لقد فرضت الأيديولوجية السوفياتية أن يتم إنشاء "الشخص السوفياتي الجديد" ليكون: محبًا للسلام، عالميًا، وطنيًا، ملتزمًا بالقانون، جماعيًا، مجتهدًا، وملحدًا متشددًا. ولتعزيز الإلحاد أنشأت سلطات الدولة والحزب الشيوعي برنامجًا تعليميًا شاملاً يُترجم على أنه: "التنشئة الملحدة". وقد كانت تلك النواة الصلبة للمخططات العامة لتكوين الشخصية التي ابتكرتها السلطات السوفيتية، كما تصورها ونفذها خبراء الحزب الشيوعي، وتضمن هذه المخططات "جهودًا متعددة الأوجه عبر العمر لتغذية الإلحاد، وتحويله إلى طريقة تفكير لكل مواطن سوفياتي".

في سياق الثقافة الإسلامية، يتقاطع موضوع الكتاب بشكل واضح مع قضيتين: الأولى تركيز المؤلفة على الكنيسة الأرثوذكسية – بشكل رئيس – كهدف لسياسات الترويج الرسمي للإلحاد، رغم أن مسلمي روسيا كانوا ضمن المكونات الدينية التي استهدفتها الدعاية الإلحادية السوفيتية. والقضية الثانية طبيعة التأثيرات التي انتقلت إلى عديد من الدول العربية المسلمة بتأثير المد اليساري الكبير في خمسينات وستينات القرن العشرين بصفة خاصة.

وبحسب الباحث البريطاني براين ويتاكر، كانت اليـمن الـجنوبي النـموذجَ الوحيدَ للحكـم الـمـاركسيّ اللينينيّ "الحرفي" في الـمنطقة. وكانت حكومتها تطمح لبناء مـجتـمعٍ "عقلانيّ اشتراكي"، ووجدت نفسها مضطرةً لـمواجـهة مسألة التعامل مع الإسلام، فاتـخذت إجراءاتٍ صارمةً، وعنيفة أحيانًا، ضدّ الـمؤسسة الدّينية كتأميـم الأوقاف وتوظيف رجال الدّين لدى الدولة. والسيطرة على الـمؤسسات الدّينية. وقد انتهج النظامُ القائـمُ نهجًا معقدًا، بـمشورة سوفيتية على ما يبدو، ويقال إنَّ اللجنة الـمركزية للحزب الوحدويّ الاشتراكيّ بألـمـانيا الشرقية أوصتِ النظامَ اليـمنيَّ بـالآتي: "الدّين يُستعمل كسلاح ضدّكـم، فلمـا لا تستعملون السلاح ذاته ضدَّ أعدائكـم؟ لـمـاذا تتخلون عن الـمبادرة لـحساب الرجعيين والانتهازيين؟ لـم لا تكون الـمبادرة للتقدميين؟ لـم لا تقولون إننا ضدّ الرأسـمـاليّة الاستغلاليّة؟" وقولوا "إن سيدنا مـحمدًا كان ضدّ الرأسـمـالية الاستغلالية؟".

ميلاد لينين

دفع ذلك الـحكومةَ لترويـج إسلام اشتراكـيّ يـُحتفَلُ فيه بميلاد "لينين" مع احتفالات دّينية تقليدية. الإسلام الاشتراكيّ يشبه حركة "لاهوت التحرير" بأميركا اللاتينية. وفي دراسة عن التعايش الهشّ والـمضطرب بين الإسلام والدولة باليـمن الـجنوبي، قال نورمان سيجار "إنَّ الاشتراكيين اليـمنيين تعاملوا مع الإسلام كـظاهرةٍ اجتـمـاعيةٍ اقتصاديةٍ معنيةٍ بعالَمنا فقط"، و"تـجاهلوا أو ربّمـا هـمّشوا الـجوانب الأُخرى من الإيمان".

في النهاية، كان الهدف النهائي للماركسية السوفياتية "تطوير بيئة نقية حيث تكون تأثيرات الإيمان الديني محدودة جدًا بحيث يصبح الفراغ في المجال الديني مستدامًا ذاتيًا. وفي التصور الأيديولوجي، يمثل مثل هذا الوضع بيئة نقية حيث يمكن أن يحدث تطور الشخصية الكاملة للشخص الشيوعي الجديد دون عوائق".

كان الهدف النهائي للتنشئة الإلحادية ما أسماه الكتاب السوفييت: "نظرة علمية إلحادية للعالم"، وبذلت الدولة كل ما في وسعها "للتغلب" على الدين، لجعله "يذبل"، ولكن عندما فشلت مساعيها "البناءة"، كانت مستعدة لنشر مجموعة واسعة من أجهزة الرقابة الاجتماعية للقضاء على العادات الدينية. وبعد عقود من "الإغواء" و"القمع" انهار الحزب الشيوعي السوفياتي ومشروعه الإلحادي.