إيلاف من لندن: قال بنجامين فرانكلين ذات مرة: "هناك ميل طبيعي في البشرية إلى الحكومة الملكية"، وهي كلمات قد تبدو مستغربة من رجل مثل فرانكلين، إلا أن التاريخ يؤكد صحتها. فعلى مر العصور، كانت معظم الأراضي في القارات الخمس تحكمها أنظمة ملكية، ولم يكن هناك مكان أرسى هذا النظام مثل أوروبا. فعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى عام 1914، كان أحفاد الملكة فيكتوريا يحكمون ثمانية بلدان، ومع أن الحرب انتهت بفقدان اثنين منهم لعرشيهما، إلا أن نظامًا ملكيًا واحدًا استمر بصلابة، وهو النظام الملكي البريطاني، الذي حكمت فيه امرأتان العرش على مدى 133 عامًا من أصل 200 عام.
تناول الصحفي جيفري ويتكروفت في مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز، عرضًا نقديًا لكتابين يتناولان عهد الملكتين فيكتوريا وإليزابيث الثانية، اللتين شكلتا وجه بريطانيا لقرون. الكتاب الأول هو "فيكتوريا ورؤساء وزرائها: حياتها، والمثل الإمبراطوري الأعلى، والسياسة والاضطرابات التي شكلت عهدها الاستثنائي"، للكاتبة آن سومرست، والذي يقدم رؤية سياسية تفصيلية حول تأثير الملكة فيكتوريا على حكومات بلادها. أما الكتاب الثاني فهو "كيو: رحلة حول الملكة" من تأليف كريغ براون، الذي يتناول حياة الملكة إليزابيث الثانية من خلال منظور شعبي واجتماعي يمزج بين الحقائق والطرائف.
في كتابها، تلقي سومرست الضوء على علاقات الملكة فيكتوريا برؤساء وزرائها، بدءًا من اعتمادها الشديد على اللورد ملبورن، مرورًا بعلاقتها المعقدة مع السير روبرت بيل، ووصولًا إلى نفورها من اللورد بالمرستون، الذي رأت أنه يحمل توجهات سياسية ليبرالية لا تتماشى مع رؤيتها المحافظة. لعب الأمير ألبرت، زوجها، دورًا محوريًا في توجيهها وإقناعها بأهمية التعامل مع رؤساء الحكومات، إلا أن وفاته المبكرة في عام 1861 أدخلت فيكتوريا في حالة من الحزن الشديد والانعزال.
على النقيض، يتناول كريغ براون في كتابه "كيو: رحلة حول الملكة" صورة الملكة إليزابيث الثانية من منظور مختلف تمامًا. حيث يسلط الضوء على تأثيرها على الناس حولها، وكيف رأى العالم شخصيتها، من خلال لقاءات عفوية ومواقف مكررة أبرزت تحفظها الدائم. فهو يستعرض المواقف التي جمعت الملكة بقادة العالم مثل رونالد ريغان ونانسي ريغان، وكيفية تفاعلها معهم بشكل شخصي. ويكشف عن جوانب غير معروفة من شخصيتها مثل حبها الكبير لكلابها الكورجي التي رافقتها طوال حياتها، وكذلك اهتمامها بسباقات الخيل.
يقارن الكتابان بين عهدي الملكتين؛ إذ شهد عهد فيكتوريا صعود الإمبراطورية البريطانية إلى قمة المجد، حيث حكمت أعظم إمبراطورية شهدها العالم آنذاك، بينما شهد عهد إليزابيث انحدار النفوذ البريطاني والتأقلم مع التغيرات السياسية والاقتصادية العالمية. الفارق بينهما لم يقتصر على ظروف الحكم، بل شمل أيضًا الأسلوب الشخصي؛ ففيكتوريا كانت تميل إلى اتخاذ قرارات قوية وحازمة، بينما كانت إليزابيث أكثر تحفظًا وترددًا في التعبير عن آرائها السياسية.
ومن ضمن المواقف التي يستعرضها براون، لقاء الملكة إليزابيث مع رؤساء دول مثل دونالد ترامب، حيث أبدت تذمرها من نظره المتكرر إلى ما خلفها كما لو كان يبحث عن شخص آخر أكثر أهمية، وهو ما يعكس حساسيتها تجاه البروتوكول والتقاليد الملكية.
أما الجانب الإنساني في كتاب براون، فيبرز من خلال السرد الطريف لبعض الحوادث المتعلقة بحياتها اليومية، مثل طردها لمدرب سباقاتها المقرب في وقت كان يخضع لعملية جراحية في القلب، مما أثار استياء المقربين منها.
من ناحية أخرى، يستعرض الكتاب حياة إليزابيث الاجتماعية وشعبيتها المتزايدة، وكيف شكلت لقاءاتها المختلفة مع الجماهير صورة نمطية متكررة، حيث كانت تستخدم عبارات مثل "هل جئت من بعيد؟" و"كم هو مثير للاهتمام" في مناسبات عدة، مما جعل البعض يصفها بأنها شخصية صعبة الفهم.
وفي خاتمة الكتاب، يستعرض براون كيف أن الملكية الدستورية البريطانية نجحت في البقاء، رغم التحديات العديدة التي واجهتها على مر العصور، وذلك بفضل الحياد الذي تلتزم به الملكة وتفوقها فوق الصراعات السياسية اليومية.
بينما تقدم سومرست رؤية أكثر جدية وتحليلية لعهد فيكتوريا، يأتي براون بأسلوب أكثر مرحًا وسخرية في تناوله لعهد إليزابيث. وهكذا يعكس الكتابان وجهين متناقضين للتاج البريطاني؛ الأول سلطوي صارم، والآخر خفيف الظل محبب للجماهير.
في النهاية، يتيح هذان الكتابان فرصة غنية لاستكشاف إرث هاتين الملكتين اللتين حكمتا بريطانيا في فترتين مختلفتين تمامًا، ولكنهما تركتا بصمة عميقة على الأمة والعالم بأسره.
*أعدت إيلاف التقرير عن صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية: المصدر
التعليقات