إيلاف من بيروت: في لعبة السلطة، هناك رجال يحكمون من القصور، وآخرون يُصنعون في الظل، وبين هؤلاء وهؤلاء، هناك من يُمحى من المشهد عندما تنتهي صلاحية وجوده. في مذكراته التي ستصدر قريبًا عن "دار رف" التابعة لـ"المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام"، يفتح عبد الحليم خدام، نائب الرئيس السوري الأسبق، الصندوق الأسود للنظام السوري، حيث تُحاك المؤامرات، وتُرسم الخرائط، ويُتخذ القرار الذي لا يمكن التراجع عنه.
هذه ليست قصة دولة، بل قصة رجل اعتقد أنه قادر على الصمود في وجه العاصفة. رفيق الحريري، رجل السياسة والمال، رئيس الوزراء اللبناني، الذي لعب على خيط رفيع بين المصالح الدولية والإقليمية، قبل أن يتحول إلى هدف. وبشار الأسد، الحاكم في حينها والذي ورث الجمهورية كما تُورث العقارات، فقرر أن من يعارضه لا ينجو.
في هذه الصفحات، نقرأ كيف جلس الحريري في قصر المهاجرين بدمشق، مواجهاً بشار الأسد الذي خاطبه بتهديد مباشر:
"أنا من يقرر من يحكم لبنان، ومن يعارضني سأكسر عظمه".
بعد أشهر من هذا اللقاء، دوى انفجار هائل في بيروت، ووجد الحريري نفسه تحت ركام سيارته، في مشهد غيّر الشرق الأوسط، وأنهى هيمنة سوريا على لبنان بعد ثلاثة عقود من القبضة الحديدية.
لكن خلف هذا الانفجار، هناك صراع في دمشق، حيث تلاعبت الأجهزة الأمنية بالمصائر، وخرجت أوامر التصفية، وصمت القصر الجمهوري عن الجريمة، ثم تهاوى النظام السوري في لبنان كبيت من ورق.
من أصدر القرار؟ من نفّذ؟ ومن حاول إخفاء الحقيقة؟
هذه المذكرات ليست سردًا تاريخيًا، بل شهادة من رجل كان داخل أروقة السلطة، وخرج منها ليحكي كيف تُصنع القرارات التي ترسم مصير الشعوب... وكيف يُمحى الرجال عندما يصبحون عقبة أمام الحاكم.
الدمار الذي خلفه التفجير في موقع اغتيال رفيق الحريري، بيروت 14 فبراير 2005
الفصل الأول: من القرداحة إلى قصر بعبدا – توريث بشار الأسد وهيمنته على لبنان
التحوّل من باسل إلى بشار
كانون الثاني (يناير) 1994، سوريا على وقع صدمة كبيرة. باسل الأسد، الابن البكر لحافظ الأسد، وولي عهده غير الرسمي، يموت فجأة في حادث سير. لم يكن باسل مجرد ابن للرئيس، بل كان المشروع الذي استثمر فيه حافظ الأسد سنوات طويلة، ليكون امتداد حكمه.
مع وفاته، واجه النظام فراغًا لا يحتمل التأجيل. في القرداحة، اجتمعت الدائرة الضيقة: أنيسة مخلوف، زوجة الرئيس، ومحمد مخلوف، شقيقها ورجل المال القوي، وقررا أن لا بديل سوى استدعاء بشار من لندن، حيث كان يدرس طب العيون، ليحلّ محل شقيقه الراحل.
عاد بشار، والتحق بدورة عسكرية، وبدأ تدريجيًا في دخول أروقة السلطة. لكنه لم يكن مؤهلًا بحكم شخصيته وخلفيته المدنية، وكان عليه أن يجد ملفًا يقوده إلى قلب النظام. وكان الملف اللبناني هو الخيار الأمثل.
بشار يدخل الساحة اللبنانية
في ذلك الوقت، كان الملف اللبناني بيد شخصيات ثقيلة مثل عبد الحليم خدام وغازي كنعان. كانت دمشق هي المتحكم الفعلي في القرار السياسي في بيروت، لكن بشار أراد ترسيخ نفوذه الخاص، فبدأ ببناء شبكة علاقاته داخل لبنان، مستعينًا بأسماء مثل سليمان فرنجية، ميشال سماحة، وطلال أرسلان.
بحلول 1998، اقتربت ولاية الرئيس اللبناني إلياس الهراوي من نهايتها، وكان الخيار المطروح انتخاب رئيس جديد. لكن بشار رأى في ذلك فرصة لإثبات نفوذه، فأقنع والده بترشيح العماد إميل لحود، رغم معارضة شخصيات لبنانية نافذة، وعلى رأسها رفيق الحريري، نبيه بري، ووليد جنبلاط.
يقول خدام عن هذه المرحلة:
"ناقشت موضوع إميل لحود مرارًا مع الرئيس حافظ، وأعطيته كل الأسباب الموجبة للاعتراض على ترشيحه. ولكن الأسد الأب أصر على التمسك به".
لم يكن لحود سياسيًا متمرسًا، بل كان ضابطًا عسكريًا، بعيدًا عن دهاليز السياسة اللبنانية، لكنه كان خيارًا مثاليًا لبشار، الذي كان يسعى لإحكام قبضته على لبنان عبر رئيس موالٍ بالكامل.
في 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 1998، تولّى لحود الرئاسة، وانتقل النفوذ من يد خدام إلى يد بشار الأسد، الذي بدأ يفرض سيطرته الكاملة على الملف اللبناني.
الفصل الثاني: المواجهة بين بشار الأسد ورفيق الحريري
قرار التمديد للحود – بداية الصدام
مع اقتراب عام 2004، كان ملف التمديد لإميل لحود قد أصبح قضية مفصلية في لبنان. معظم القوى السياسية، وعلى رأسها الحريري، بري، وجنبلاط، كانت ضد التمديد. أما على المستوى الدولي، فكانت فرنسا وأميركا صريحتين في رفضهما استمرار لحود في الحكم.
لكن في دمشق، كان القرار محسومًا. التخلي عن لحود كان يعني الاعتراف بتراجع النفوذ السوري في لبنان، وهو أمر لم يكن بشار الأسد مستعدًا لقبوله.
في تموز (يوليو) 2004، استُدعي الحريري إلى دمشق، حيث عقد لقاءً متوترًا مع الأسد، بحضور اللواء غازي كنعان، والعميد رستم غزالة. كان الأسد يتحدث بحدة واضحة، وحين أبدى الحريري اعتراضه على التمديد، جاء الرد الصادم:
"أنا من يقرر من يحكم لبنان، ومن يعارضني سأكسر عظمه".
كان هذا إعلانًا واضحًا بأن أي محاولة للخروج عن القرار السوري ستُواجه بالقوة. خرج الحريري من الاجتماع وهو يدرك أن خياراته بدأت تضيق. في آب (أغسطس)، تراجع الأسد عن تصريحه السابق بعدم التمديد للحود، وأصدر أمرًا بدعمه.
عندما علم الحريري بتغير الموقف، كان يعلم أن المواجهة قد بدأت بالفعل، وكان السؤال الذي طرحه لخدام يعكس خطورة الوضع:
"إذا عدت إلى لبنان، هل هناك خطر على حياتي؟"
الفصل الثالث: اغتيال الحريري... الزلزال السياسي
"هل هناك خطر على حياتي؟"
مع تصاعد التوترات، بدأ الحريري يتلقى إشارات تحذيرية متزايدة، لكنه قرر البقاء. لم يكن من النوع الذي يهرب، وكان يرى أن عليه مسؤولية سياسية تجاه لبنان.
لكن في دمشق، كان النظام يتعامل مع الأزمة وكأنها معركة بقاء. حين وصلته رسالة من ماهر الأسد، عبر الصحافي اللبناني عوني الكعكي، بأن ماهر "حريص على حل الإشكالات مع الحريري"، كانت الرسالة غير مقنعة.
عندما أبلغ الحريري خدام بهذه المحاولة، جاءه التحذير صريحًا:
"في رأيي، يجب أن تكون حذرًا... وتغادر لبنان".
لكن الحريري لم يكن مستعدًا للهروب. حتى عندما بدأت الأجهزة الأمنية اللبنانية، الخاضعة لدمشق، في سحب عناصر حمايته، ظل صامدًا.
لحظة الانفجار
14 شباط (فبراير) 2005، الساعة 12:55 ظهرًا، وقع الانفجار الذي هزّ بيروت.
موكب الحريري، الذي كان يسير على طريق كورنيش البحر، استُهدف بسيارة مفخخة تحمل أكثر من 1.5 طن من المتفجرات. القوة التدميرية كانت هائلة، حتى أن جثث بعض الضحايا وُجدت على بعد عشرات الأمتار.
اختفى الموكب تمامًا، وتحولت السيارات إلى حطام. بيروت، التي اعتادت على العنف السياسي، لم تشهد من قبل تفجيرًا بهذه القوة.
ردّ فعل دمشق... الصمت البارد
في دمشق، كان رد الفعل الأولي صادمًا ببروده. عندما أبلغ خدام القصر الرئاسي بنيته الذهاب إلى بيروت لتقديم التعازي، جاءه الرد من محمد دعبول، مدير مكتب الأسد:
"إذا أردت أن تذهب، فاذهب بصفتك الشخصية، لأن الرئيس قدّم العزاء لإميل لحود".
حتى الصحف الرسمية السورية لم تذكر اسم الحريري في العناوين الرئيسية، بل اكتفت بخبر صغير:
"انفجار كبير في بيروت"
الفصل الرابع: تداعيات الاغتيال وسقوط النفوذ السوري في لبنان
الجنازة التي تحوّلت إلى انتفاضة
في بيروت، كانت جنازة الحريري أشبه بثورة. مئات الآلاف من اللبنانيين خرجوا إلى الشوارع، يهتفون ضد سوريا، مطالبين بإنهاء الوصاية السورية على لبنان.
لكن في دمشق، لم يكن هناك أي إشارة للندم. قال أحد كبار المسؤولين في اجتماع مغلق:
"لن نشارك في جنازة رجل قد نكون قتلناه".
مع تصاعد الغضب الدولي، أصدر مجلس الأمن القرار 1559، مطالبًا بانسحاب القوات السورية من لبنان. في أبريل 2005، خرجت آخر القوات السورية، لينتهي بذلك نفوذ استمر أكثر من ثلاثين عامًا.
يكتب خدام عن هذه اللحظة:
"عندما غادرت آخر القوات السورية لبنان، لم يكن ذلك مجرد انسحاب عسكري، بل كان إعلانًا عن انتهاء حقبة كاملة من السيطرة السورية".
الفصل الخامس: الفوضى الداخلية والصدام مع المجتمع الدولي
"إذا لم يرضخ الحريري، سأقتله"
كان رستم غزالة، الرجل الأمني الأقوى في لبنان، يرى في الحريري تهديدًا مباشرًا. في اجتماعاته الأمنية، لم يكن يخفي نواياه، وقال بوضوح:
"إذا لم يرضخ لنا، سأقتله"
عندما ناقش خدام مع الأسد خطورة غزالة، قال له:
"رستم غزالة يستحق أن تُقطع رقبته"
لكن الأسد لم يفعل شيئًا. كان يعتمد على أجهزته الأمنية للبقاء في السلطة، رغم معرفته أن الفساد والعنف كانا جزءًا من تركيبة الحكم.
"لقد صدر القرار... والنظام لن يتراجع"
بعد الاغتيال، كان لدى النظام السوري خياران: إما التعاون مع التحقيق الدولي، أو المواجهة. اختار بشار الأسد المواجهة، قائلًا في اجتماع مغلق:
"إذا ظنوا أننا سنتراجع، فهم واهمون. القرار صدر، ونحن لن نتراجع"
كان ذلك هو جوهر عقلية النظام: المواجهة بأي ثمن، حتى لو كان الثمن هو مستقبل سوريا نفسها.
* أعدت إيلاف التقرير عن "المجلة": المصدر
التعليقات