جسد متحف ابن لقمان بمدينة المنصورة المصرية قصة أسر الملك الفرنسي لويس التاسع، وبات المتحف شاهداً على إنجازات المقاومة الشعبية في هذا البلد ضد الفرنسيين، ومن خلال القراءة الواعية لمحتويات المتحف يمكن الوقوف على القصة من بدايتها حتى النهاية.


القاهرة: في مدينة المنصورة المصرية التي تقع في قلب دلتا النيل متحف مهم يحكي جزءا بالغ الأهمية في تاريخ الأمة المصرية الممتد، وتبدو أهميته في أنه يجسد لحظة انتصار حاسم لأهالي مدينة المنصورة على الحملة الفرنسية الصليبية بقيادة الملك الفرنسي لويس التاسع، الذي شاء أن يغزوها في عام 1248، من بوابة شاطئ البحر المتوسط عند مدخل مدينة دمياط، لكن الأمر انتهي بوقوع الملك الفرنسي الشهير أسيراً في quot;دار بن لقمانquot; والتي أصبحت فيما بعد متحفاً للمدينة يحكي ذلك التاريخ الناصع العظيم في حياة المصريين.

اطلالة متحف بن لقمان على نيل المنصورة

في الطريق إلى زيارة المتحف نمر عبر شوراع مدينة المنصورة التي تبدو فيها المدينة التي أنجبت عددا كبيرا من الفنانين والأدباء والساسة مدينة رائعة الجمال، بالنظر إلى موقعها الجميل كجزيرة بين فرعي دمياط والنهر الصغير، والمنصورة بشكل عام تشتهر بين المصريين بأنها موطن الجمال والحسن في مصر، وكانت قديما تسمي جزيرة الورد، إلا أن الملك الصالح أيوب أطلق عليها في سنة 1218 إسم المنصورة، تيمنا بانتصارها علي احدى الحملات الصليبية التي سبقت حملة لويس التاسع باثنين وثلاثين سنة.

دار بن لقمان

عند الوصول الى متحف المنصورة أو quot; دار بن لقمانquot; في وسط المدينة بالقرب من شارع السكة الجديدة quot;أشهر شوارع المدينة على الإطلاقquot;، نلاحظ أن المتحف لا يبعد كثيراً عن فرع نهر النيل هناك، ولا تتعدى المسافة بعداً عنه أكثر من 500 متر، لكن دليل المتحف يقول إن الدار التي أنشئت عام 1218، للقاضي إبراهيم بن لقمان كانت تقع على ضفة النهر مباشرة. بني القاضي بن لقمان داره بعد عدة سنوات من من بداية إنشاء الملك الكامل محمد بن العادل لمدينة المنصورة عام 975 تقريباً، وكان يجاور هذه الدار عند بنائها مسجد كبير يطلق عليه مسجد الموافي نسبة للشيخ الموافي، الذي كان يقيم حلقة علم به ودفن به بعد موته، ولازال هذا المسجد موجودا حتى الآن، وكان الملك الكامل قد بناه أيضا مع بدايه إنشاء المدينه. ومن الملفت أن قبلة المسجد تلاصق حائط دار ابن لقمان مما يدل على قدم هذه الدار والمسجد.

لم يتغير شيئ كثير في دار ابن لقمان غير الخشب الذي كان من جذوع الأشجار إلى خشب جديد، لأن عمره الإفتراضي كان قد انتهى. الدارمبنية على الطراز العربي القديم المكون من السلاملك وهو سكن الرجال والحرملك وهو سكن النساء، والدار مكونة من طابقين مشيدين على الطراز العربي الإسلامي، فباب الدار عبارة عن باب كبير يصل ارتفاعه إلى مترين، ويؤدي إلى باب آخر صغير جدا ويقالإنه أنشىء خصيصا لكي يدخل الملك لويس التاسع منه الى الأسر محني الظهر.

احدى الارائك الاثرية داخل المتحف

نلاحظ أن نقشاً من أبيات شعرية على باب الدار يقول:

قل للفرنسيس إذا جئتهم مقال صدق من قؤول فصيح

قد ساقط الحين إلى أدهم ضاق به عن ناظريك الفسيح

وكل أصحابك أودعتهم بحسن تدبيرك بطن الضريح

خمسون ألفا لا يرى منهم إلا قتيل أو أسير جريح

فقل هلم إن أضمروا عودة لأخذ ثأر أو لقصد صحيح

دار ابن لقمان على حالها والقيد باق والطواشي صبيح

وبعد الولوج من هذا الباب نجد أن الطابق الأول يتكون من قسمين، الأول عبارة عن غرفتين تقع على يمين الداخل بكل منهما فتحة صغيرة عبارة عن نافذة كانت تطل على الطريق ولكنها أغلقتا منذ أمد طويل.

والقسم الثاني وهو على يسار الداخل وكان مكونا من غرفتين أيضا ولكن نظرا لتهدمهما فقد أعيد بناؤهما على هيئه صالة متسعة بها صورة ضخمة تمثل معركة المنصورة أمام الصليبين، وأيضا تمثال نصفي لصلاح الدين الأيوبي وكذلك ملابس من العصر الأيوبي وسيوف وخناجر عربية وفرنسية ونبل عربية استعملها الشعب والجيش في المعركة، هناك أيضا تمثال يخلد كفاح شعب المنصورة ضد الحملة الفرنسية، وفي أحد الأركان نجد أن هناك تمثال يصور الفارس المصري بالخوذة والدرع والسيف، أيضا تمثال وصورة لجمال عبد الناصر أثناء افتتاحه المعرض سنة 1960.

من مكونات المتحف أيضا تمثال للسلطان طوران شاه، الذي يعتبر آخر سلطان أيوبي حكم مصر وبعده تولى المماليك حكم مصر، نجد أيضا تمثالا للمكلة شجرة الدر زوجة الملك الصالح أيوب، بالإضافة الى صور كثيرة أهمها صورة تظهر أحد رجال الحملة وهو يسلم الفدية لفك أسر الملك لويس التاسع.

ما بين قسمي الدار توجد صالة كبيرة بها سلم خشبي يصعد للدور الثاني، وهذا الدور يتكون من غرفة واحدة وهي الغرفة التي أسر بها لويس التاسع وتتكون من كرسي وأريكة خشبية من الأرابيسك كان الملك ينام عليها وهي مصنوعة على الطراز الإسلامي وكانت من أثاث بيت القاضي بن لقمان، أيضا قنديل من النحاس كان يستخدم لإضاءة حجرة الملك، وخزانة في الحائط ونافذة مطلة على الخارج وكرسي ضخم، وأهم ما يميز الغرفة هو تمثال بالحجم الطبيعي للملك لويس والأغلال في يده وخلفه الطواشي صبيح وهو حارس كان يقوم بحراستة.

القوات الفرنسية في دمياط

أما القصة التي يجسدها هذا المتحف فهي ترجع إلى ذلك التاريخ الذي قرر فيه ملك فرنسا لويس التاسع قيادة غزوة صليبية للإستيلاء على مصر، وإثر ذلك القرار تجمعت في قبرص سنة 1248م جيوش من 8 دول أوروبية يمثل كل دولة فيها عشرة آلاف مقاتل كلهم يعملون تحت إمرة الملك لويس التاسع.

سارع الملك لويس التاسع في إرسال رسالة تهديد من قبرص إلى الملك الصالح أيوب ملك مصر ووصلت الرسالة إلى الملك الذي كان موجودا في الشام يعاني من مرض شديد، لكنه سارع بالعودة إلى مصر، ومن شدة مرضه نزل في قرية أشمون بالقرب من دمياط التي ينتظر أن تصلها القوات الغازية ومن هناك أعد العدة لإدارة المعركة، وصلت الحملة الفرنسية عبر البحر الأبيض المتوسط وتمركزت على شاطئ دمياط، وعلى الفور بدأت الإشتباكات والمناوشات بين جنود الحملة وقوات الملك الصالح، وكانت النتائج تصل إلى الملك أول بأول في اشمون عبر استخدام الحمام الزاجل الذي كان يحمل الرسائل بين الملك وقائد الجيش فخر الدين في دمياط.

ظل الجيشان متقابلين لمدة ثلاثة شهور لم تستطع خلالها القوات الغازية التقدم داخل دمياط، وفي الشهر الرابع اشتد المرض على الملك وانقطعت رسائله وتوجيهاته إلى القائد فخر الدين قائد قواته المحاربة في دمياط، واعتقد أن الملك مات وخاف من احتدام الصراع على المُلك خاصة وأن الملك لم يكن لديه إلا ابن واحد وهو طوران شاه وكان موجودا في الشام آن ذاك، ومن ثم اعتقد فخر الدين أن حسم أمر الملك الجديد سيقطع على الحملة فكرة استغلال الموقف والتقدم لغزو المنطقة فأراد أن يحسم الأمر ويساعد في تعيين الملك الجديد فذهب بقواته إلى أشمون حيث مكان إقامة الملك غير أنه فوجئ بأن الملك حي، وأراد الملك أن يأمر بقتل فخر الدين ومعظم القادة نظرا لتخليهم عن المواجهة مع القوات الغازية، لكن زوجة الملك شجرة الدر تدخلت وقالت إنه هو السبب لأنه لم يرد على رسائل فخر الدين، وقالت له يجب العفو عن فخر الدين والقادة لأنه ببساطة لو قتلهم جميعا، فإن المعركة سوف يتم حسمها لصالح الغزاة، عندئذ امتثل الملك للنصيحة وعفى عنهم وترك اشمون وانتقل إلى المنصورة ومعه الأهالي الذين تحصنوا مع قواته هناك.

الإنتصار الكبير

في تلك الأثناء استغلت القوات الفرنسية الموقف وتحركت إلى قرية quot;البارمونquot; في اتجاه المنصورة، لكن نيل دمياط والبحر الصغير منعاها من العبور، فتمركز الجيش هناك واستعان ببعض الجواسيس لمساعدته، وقام أحدهم ببناء جسر خشبي حتي تتمكن قوات الأعداء من العبور عليه في اتجاه المنصورة، وكانت المشكلة هي عدم وجود خشب لهذا الغرض، فأمر لويس التاسع بفك أجزاء من مراكبه لبناء الجسر، لكن شعب المنصورة تمكن بمدافع المنجانيق والكرات اللهيبة من قذف الجسر وأوقفوا تقدم الفرنسيين لمدة ثلاثة أسابيع. وفي 8 شباط/فبراير سنة 1250 مات الملك الصالح أيوب في المنصور وأخفت زوجته الملكة شجرة الدر خبر موته وساعدها على إخفاء الخبر 5 أشخاص قام اثنان منهم بدفنه في جزيرة الروضة وكل ذلك حتى لاتتأثر معنويات المقاتلين، وبالرغم من ذلك هاجم الفرنسيون المنصورة، لكن شعب المنصورة استطاع أن يهزمهم ويردهم على أعقابهم ويقتل الكونت quot;داتروquot;، وعلم لويس بموت أخيه في المعركة في 8 شباط/فبراير في البارمون ، واشتاط غضبا وفي 11 شباط/فبراير شن معركة البحر الصغير في الموقع المشيد فيه محافظة المنصورة الآن وكانت أول معارك الجيش الصليبي في مصر وانهزم لويس بعد 3 أيام من المعركة الرهيبة.

ساعد في الهزيمة أن طوران شاه ابن الملك كان قد وصل إلى ساحة المعركة وتسلم قيادة الجيش وبدأ طوران شاه أعماله الحربية بالإستيلاء على جميع المراكب الفرنسية التي تحمل المؤن للمعتدين فحدثت مجاعة بين القوات الفرنسية واستغل المصريون الموقف ومن أغرب الخدع هي التي قام بها الكثيرون من الأهالي عندما وضعوا ثمار البطيخ الأجوف على رؤوسهم ونزلوا إلى الماء، فهرعت القوات الفرنسية الجائعة لإلتقاط البطيخ وفي كل مرة يحاول جندي فرنسي التقاط بطيخة يتم الإمساك به أسيرا، عندئذ لم يستطع لويس حماية جنوده من الخدع ومن الأمراض فحاول ترك المرضى والرجوع إلى دمياط لاستبدال الجنود المرضى بالمعافين وعندما وصل إلى فراسكور كان قد تم الإستيلاء على المراكب ولم يكن باستطاعته الإبحار إلى دمياط وقلقت زوجته عليه إلا أن مرسالا أتي من فارسكور الي دمياط لطمئنة زوجته الملكة عليه، فارسلت علي الفور قوات الي فارسكور لمساعدة زوجها، وقامت هناك معركة لمدة أسبوع في الفترة من 1 إلى 7 نيسان/ابريل عام 1250.

وفي اليوم السابع هرب القائد الذي أتى لمعاونة الملك لويس بعد أن أمر رجاله بإلقاء السلاح وبقي لويس بقواته العليلة في فارسكور وقرر الإنسحاب إلى دمياط والعودة إلى فرنسا، لكنه أخطأ الطريق إلى دمياط فاتجه إلى الجنوب إلى قرية ميت الخولي عبد الله حيث دارت المعركة الفاصلة عندما طوقهم طوران شاه وأيقن لويس التاسع ملك فرنسا أنه لا أمل في النصر.

وبلغ عددقتلى الصليبين في هذه المعركة - كما يذكر المؤرخون - ثلاثون ألفا، فعرض التسليم وطلب الأمان لنفسه ولمن بقي معه من جنود.

وهكذا استسلم لويس الحزين لنهايته الأليمة حيث أرسل أسيراً إلى دار إبراهيم بن لقمان قاضى المنصورة في مساء السابع من نيسان/ابريل ، ولم يكن أمام لويس إلا الإذعان فافتدى نفسه وبقية جنده بفدية كبيرة قدرت بعشرة ملايين من الفرنكات، واتخذت مدينة المنصورة تلك الذكرى لتصبح عيدا قوميا للمدينة تحتفل به كل عام.