يجد الكثير من العراقيين متعتهم في اللعب مع اسراب النوارس التي تلهو في نهر دجلة، ومتعتهم تتمثل في اقامة علاقات ودية مع هذه النوارس المحلقة في الفضاء لتتجاوز في تحليقها هيكل الجسر وهي منتشية في الحصول على قطعة خبز، فوجودها الكثيف يعطي اشارة الى انها عادت بعد غياب سنوات اثر توقف التفجيرات التي كانت ترعبها.

عراقيون يطعمون النوارس على ضفاف نهر دجلة

بغداد: لا يمكن للعابرين على جسور بغدادالان ، الا الانتباه الى اسراب طيور النوارس التي تمارس التحليق والغناء تحت فضاءات الجسور لاسيما منهما جسرا (الاحرار) و (الشهداء)، اللذان تكثر عليهما اعداد العابرين لقربهما من محلات سكنية، ولانهما يؤديان الى اماكن تجارية كبيرة ، لذلك يكون التوقف اجباريا والنظر من اعلى الجسر الى فضاءات النهر والماء ضروريا.

بل ان الاغرب ان المشهد يكبل الاقدام، فيذهب الوقت ويتناسى او ينسى العابر من هناك نفسه، وهذه المتعة المستمدة من طيور النوارس تكتمل مع وجود العديد من الاشخاص الواقفين على الجسر وفي ايديهم ارغفة خبز او انواع اخرى من الاطعمة ويقطعونها الى فتات ومن ثم يرمون بها الى النوارس التي هي الاخرى تجد متعة حين تنال طعامها من ايدي هؤلاء الاشخاص دون ان تشعر بأي خوف!

وربما ثمة سر وراء عشق العراقيين للنوارس، فلا تخلو قصيدة لشاعر منهم الا وكان للنوارس مكان محفوظ، كما انهم يطلقون على فريق الزوراء بكرة القدم لقب (النوارس)، ولا تجد من يتحدث عن نهر دجلة دون ان يذكر النوارس بالخير.

وربما عشق النوارس مرتبط عندهم بعشق دجلة الذي يرتبطون به ارتباطا حميما ومؤثرا، بل انهم يستخدمون النوارس وصفا جميلا لأحبائهم المهاجرين او صغارهم ،بل ان احد الشعراء الشعبيين يقول متأسفا ومتشائما مع رسمه لصورة وضع عام (خربت من شفت جنحان عند الفيل .. ومن شفت النوارس صارت ذيابه) ، حتى ان كاتبا من مدينة الموصل هو (اكرم الأعرجي) له قصة عنوانها (نقر النوارس) يقول فيها (تعجبني هذه الطيور كونها تجمع ما بين القوة وجمال الهيئة، وكم يروق لي التمعن بمنظر الصبية والشبان الذين يقصدون المكان ويقومون برمي الخبز وبقايا الطعام للنوارس التي بدورها تقوم بالتحليق بالقرب من الناس الذين يقومون بإطعامها).

وهذا المشهد يحبه العراقيون لذلك هم لا يتورعون عن ذكره ولا يترددون في مشاهدته ان سنحت لهم الفرصة لمشاهدة النوارس في افق النهر ، وهنا تقول الكاتبة الروائية العراقية لطفية الدليمي مقطعين شاهدين حين مرت من هناك ، تقول : (من الكرخ نعبر جسر الشهداء. نمر على انحناءاته كأننا الريح) ، الى ان تقول (بغتةً، تمر غمامة من النوارس البيض وتهبط الى دجلة أو تحوم فوق الجسر ثانيةً وتعيدنا الى برهة سلام وسط العدم الماحق)، فالعراقيون يتفاءلون بالنوارس لان عودتها تعيد اليهم الاطمئنان وتبشرهم بالخير .
الروائي العراقي علي حداد يتحدث الى ايلاف عن رجل كبير في السن يبدأ صباحاته اليومية بالمرور على كل المطاعم التي في صوب الكرخ، ويجمع منها الفضلات من الخبز والصمون ومن ثم يأتي الى الجسر، جسر الاحرار، ليقف في منتصفه، وما ان يقف ويطل برأسه او يفتح كيسه حتى تبدأ اسراب النوارس لتحلق قبالته ، بانتظار ان يطعمها.

وبالفعل، فأنه يرمي لها بالطعام فتتلقفه بمناقيرها بعد ان تطلق اصواتا كأنها تشكره فيها ، ويظل هكذا الى ان يفرغ الكيس الكبير ليعود ادراجه، وهكذا دواليك كل يوم، والظاهر ان هذه النوارس تعرف هذا الرجل جيدا ، يقول علي حداد انه ضمن احدى قصصه شيئا عن هذا الرجل فقال عنه:(سنوات طويلة ومازال الى يومنا هذا تنتظره النوارس ان يرمي لها خبزها اليومي..انها على موعد معه.. وحين يسافر الى لبنان يتصل باصدقائه وهو محترق (الله عليكم وكلتوهم للنوارس).

كان الاعتقاد ان النوارس هجرت النهر لقلة الماء فيه او لقلة الاسماك كما اشيع في السنوات الاخيرة بسبب التلوث الحاصل في نهر دجلة ، لكن يبدو ان السبب هو تدهور الوضع الامني حيث الانفجارات والأصوات الضاجة بالنشاز التي تستشعر معها النوارس بالخطر، لانها تكره اصوات الدوي ولا تعرف الى اين تهرب.

ويبدو انها اطمأنت فعادت تلهو على صفحات الماء، ولكن ما بدأت بغداد تلاحظه مؤخرا مثيرا ومدهشا، فما ان مخرت سفينة صغيرة سطح الماء حتى حلقت في الاجواء آلاف النوارس، نعم آلاف النوارس التي غطت الفضاء بتحليقها وكانت مثل سحابة بيضاء، جعلت الاعداد الكبير الجميع يفغرون افواههم عجبا وهشة لاسيما ان الاسراب انطلقت فوق الجسر وذهب قسم منه بعيدا الى الجهة الاخرى من النهر.

قال شاب في العشرين من عمره لإيلاف واسمه سيف سعيد: اعبر يوميا من الجسر باتجاه الشورجة (في الرصافة) ولانني كنت ارى مجموعة من الاولاد يقفون ويطعمون النوارس فقد صرت مثلهم، احمل معي من البيت كيسا في خبزا لينا واقطعه الى قطع صغيرة وحين اصل وسط الجسر ارمي بالخبز اليها، فتأتيني محلقة من اسفل النهر وأجد متعة كبيرة في ما اقوم به الى ان يفرغ الكيس فأذهب في طريقي، انا احب الطيور هذه كثيرا.

اما نوار سلام ، في السابعة عشرة من العمر، فقال: انا اجيء كل يوم جمعة مع اخي الى شارع المتنبي، فنقف حين نرى الاخرين يقفون، ولان ما يقوم به الاخرون باللعب مع النوارس يعجبني فأنا صرت مثلهم واعتدت على ان اشتري صمونتين من الفرن في اخر الجسر وأقدمها طعاما للنوارس الجميلة، واصبحت استمتع معها حين ارمي لها قطعة الخبز فتقترب مني لتأخذها، هذه الطيور جميلة جدا واتمنى ان امر عليها يوميا ولكن بيتنا ليس قريبا من هناquot;.

اما محمود سعدون، في الثلاثين من عمره، فقال: quot;بيتنا في شارع حيفا، لذلك اجيء بين يوم واخر انا وبعض من اصدقائي لقضاء وقت مع هذه النوارس، انها اجمل شيء في هذا المكان، اجمل شيء نشاهده في نهر دجلة، انظر الى الماء القليل في النهر ولكن انظر الطيور الكثيرة العدد، اعتقد انها لا تريد ان تفارق نهر دجلة حتى لو نقص ماؤه، انا استمتع جدا حين اقف هنا وانظر الى هذه النوارس اللطيفة وهي تطير وتنزل الى الماء ومن ثم تصعد الينا لنطعمهاquot;.