على غير مبعدة عن نهر quot;أبي الرقراقquot;، الذي يغزل أزرقه المدهش، خيوطاً من الحياة، بين جبال أطلس الشاهقة، والمحيط الأطلسي الفسيح، يقبع ضريح الملكية المغربية، الذي يحوي جثامين، محمد الخامس، والحسن الثاني، في بناء مهيب، على طراز يجمع بين عبقرية الأندلس، وحداثة المغرب، لا تكتمل زيارة الرباط، دون المرور به.


يقول لي محدثي، وهو لا يحب ذكر اسمه، ولا صوته، لكنه مغرم بأبن زيدون، وكل ما جادت به الأندلس الغاربة، إن العاهل المغربي الحداثي التحديثي، يزور الضريح بين الفينة والأخرى، دون رفقة رسمية. يجلس الملك الشاب، ثم يقرأ القرآن على روح أبيه، ويغادر. يضيف لي محدثي همسًا: quot;حين يبحث الملوك عن القوة فإنهم لا يستمدونها إلا من أسلافهمquot;.

ولا أحد يمكن أن يستمد القوة من أسلافه، مثل ما يفعل محمد السادس، فهو إن يمم وجهه يم الحسن، فسيجده أبًا، في شخص والده الحسن الثاني، أو سبطا، في شخص جده الحسن بن علي كرم الله وجهه، وإن يمم وجهه لجده، فسيجده سلطانًا، كمحمد الخامس، أو نبياً، كجده الأعلى نبي الرحمة، ونورها المهداة، محمد بن عبد الله، عليه الصلاة والتسليم.

وما بينهم، أي بين الأسماء والصفات، خيوط طويلة، وجسور، من التاريخ، والجغرافيا، وخبرة العرش في مواجهة الظروف. وقد مرت قاسية، وعاصفة، ولكن العرش نجا، والمغرب، والبلاد، والعباد!

في البناء الرخامي، الذي يحيط به الحراس داخلاً وخارجاً، تبدو لمحة واحدة من قصص هذه المملكة، التي تتحرك على إيقاع خبرة تجاوز اثني عشر قرنًا، وفرت لها خبرة في التعامل مع الظروف، ولم يكن آخرها المواجهة الذكية لأحداث الربيع العربي، ورياحها العاتية.

وفاجأت المغرب نفسها، والعالم، بدستور جديد، اختار فيه الملك، أن يفوض معظم صلاحياته، لأبناء شعبه، وقبل المغاربة أن تكون الملكية خطاً أحمر، وشخصية الملك لا يقترب منها الخصوم.

وفي ما بعد، بعيداً عن هذا الضريح، سأسمع في مقر وكالة الأنباء المغربية، أحد مستشاري الملك، يتحدث عن الدستور، وكيف أنه جاء مباشرًا، وجامعًا، وبعدها بأيام سأستمع إلى رئيس الحكومة وهو يؤكد على أن الملكية عامل استقرار، وبعدها سأسمع الكثير، الكثير، عن قصة المغرب الجديد.

ويبدو لي أن الكل هنا مؤمنون حول الملكية، والملك والعرش والتاج، ويختلفون حول التفاصيل، وما أكثر الشياطين بين تلك التفاصيل!

بعد زيارة الضريح بيوم كان عبد الله ساعف يتحدث عن الدستور، في قاعة أنيقة، تتوسط مبنى وكالة المغرب العربي للأنباء، أمام جمع من مندوبي الصحافة العربية.

يقول القانوني المعتق عن الدستور الجديد أنه ميز بين الصلاحيات المخولة للملك، والصلاحيات التي تمتلكها الحكومة، إذ أصبح البرلمان هو المستقر والمصدر الوحيد للتشريع، وهو ما يعتبره ساعف quot; quot;المكسب الأساسي في مسار بناء الديمقراطية في المملكةquot;.

وتطرق الى ملامح أخرى أهمها أن النقاش السياسي، بين الحكومة والمعارضة، أصبح تحت مظلة واحدة، تقبل التعددية، ولم يعد اللجوء إلى الشارع خياراً مطروحًا.

وأكد ساعف أن مرور سنة وبضعة أشهر على تولي الحكومة غير كافٍ لتقييم أدائها في مجال مكافحة الفساد٬ معتبرًا٬ في الوقت ذاته٬ أنها تتوفر على ما يجعلها تنجح في هذا المجال.

وتطرق ساعف إلى الإجراءات التي قامت بها الحكومة في إطار محاربة الفساد٬ دون إغفال التأكيد على خصوصية النظام السياسي المغربي الذي يشكل الملك فيه محط إجماع من طرف مجموع مكونات المجتمع.

وبعد الدستور، أصبح هنالك تمييز بين صلاحيات الحكومة، وبين الصلاحيات الاستراتيجية المخولة للملك، وذلك بفضل التوجهات الديمقراطية للملك التي يمكن أن quot;تجعل الأمور تتقدم بأسرع مما نتصور لنحت البناء الديمقراطيquot;، على حد تعبير ساعف.

وأشار ساعف إلى إصدار البرلمان للقانون التنظيمي المتعلق بالتعيين في المناصب العليا٬ والذي تم بموجبه تقليص عدد المناصب المخول للمجلس الوزاري، الذي يرأسه الملك، التعيين فيها٬ مقارنة مع تلك المخولة لمجلس الحكومة٬ وهو ما يعتبر quot;تغييرًا جوهريًاquot;، الأمر الذي قلص الوظائف التي يتم التعيين فيها بأمر الملك إلى نحو 13 وظيفة.

ومن مقر رئيس الحكومة٬ مرورًا بوزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة٬ ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية٬ ورئيسي مجلسي البرلمان٬ وليس انتهاء برئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي، كان الجميع يؤكد على أن الملكية أنقذت البلاد من آثار الربيع العربي، ومن كارثة محققة، لو تفاقم أمر الاحتجاجات في الشارع.

وكان اللافت أن هذه الاحتجاجات لم تتطرق إلى الملكية من قريب أو بعيد، بل بمحاربة الفساد، وإنعاش الحالة الاقتصادية للمواطن المغربي، وتطوير البنية التحتية.

ومع الدستور الجديد، يبدو أن أمام المغرب قصة مختلفة، ورحلة أخرى، يحبذ المسؤولون المغاربة الذين ألتقيتهم، أن تكون رحلة في عالم التنمية.