كنت أتمشى في ضوء أصفر خافت في غرفة من كرفان وقد كسرت الريح صمت الظلام المخيم على الموقع كله بتلاطم أغصان أشجار أمامه وعلى سطح غرفتي.. كما كسرت أيضا سلسلة أفكاري.. وكمسؤول للدعم اللوجستي في اشرف وتقع علي مهمة ومسئولية كنت أفكر ماذا يعمل إخوتي الان وبماذا يشعرون في برد هذا الليل الصعب وخصوصا في هذه المنطقة الصحراوية القاسي بردها شتاءا وليلا.. هل لديهم صوبة (مدفأة) ليدفئون بها أنفسهم؟ كيف تتم تدفئة اماكن النوم والأماكن العامة في البرد؟ هل يكون الجو باردا أكثر مما يكون الآن؟ وما هو الحل للخروج من هذه المأساة مع فريضة الشتاء وقسوة البرد هذا العام؟ منذ زمن بعيد لا يوجد لدينا نفط في المستودعات لتوزيعه وكسر حدة البرد علينا.
كنت أفكر في الجميع ماذا يفعلون الآن وفي الليلة الباردة هذه؟ أيمتلكون شيئا ليدفئوا به أنفسهم؟ وكيف تُدفَأ القاعات العامة وغرف المنام في هذا البرد؟ وهل سيُبرد الجو أكثر فأكثر مما هو عليه الآن؟ وإن استمرت البرودة ماذا علينا أن نفعل؟ بخاصه أنه ومنذ مدة طويلة ولانملك نفطاً في المخزن للتوزيع...كررت ذلك مرارا وألما وعادت بي ذاكرتي إلى قبل ثلاثين سنة في هذه الأيام بالضبط، حيث كنت أكمل السنة الأخيرة في دراستي لمادة الكيمياء في الجامعة وكنت في المختبر أدرس التركيبات النفطية بدقة واشتياق آملاً بمستقبل سيحمل خيرات ونعمات لأبناء شعبي ولأمثالي أنا أيضا... لكنني لم أكن أتصور إطلاقا أنه وبعد ثلاثة عقود منذ ذك الحين عندما يعيش الإنسان ذروة التطور والحضارة والقيم الإنسانية، يتم استخدام النفط كأداة للأذى والإضرار والضغط والتعذيب ولم أكن أتخيل أن تكون هنالك مدينة محاصرة تماما في شتاء قارس حيث تلجأ إلى طهي الطعام على الفحم والخشب بدلا من استخدام الأجهزة عالية التقنية وأن تهتز وترتعد من البرد ليلا...


ثم ذهبت بي ذاكرتي الى ما قبل ذلك أي في فترة الإعدادية عندما كنت أقرأ حكايات حاتم الطائي في كتاب تعليم اللغة العربية كنت أتمنى أن يصل يوم وأحل ضيفا على عرب كي أجرب تعاملهم وضيافتهم العربية لأرى كيف يكون الكرم الحاتمي وكرم العرب الذي يضرب العرب به المثل.. ولم أكن أتصور أبدًا أنه سيأتي بي يوم في دولة عربية تحكمها حكومة تدعي بأنها ذات أصالة عربية وإسلامية ولا تكتفي بتعامل لا إنساني مع جماعة عزل وغير قادرين على الدفاع عن أنفسهم فحسب بل ويتم محاصرتهم حصارا جائرا بحيث لا يستطيعون تأمين إحتياجاتهم الخاصة بالتدفئة ومع دفع تكلفة لذلك قدرها عدة مرات مضاعفة فوق سعرها ظلما واستغلالا ورغم ذلك لا يلبى ولايسمح لهم.


نعم في مدينة أنشئت في صحراء ملحية قاحلة بمساحة 36 كيلومتر مربع ويطلق عليها جيرانها laquo;لؤلؤة الصحراءraquo; ويسميها سكانها laquo;أشرفraquo; وتضم نحو 3400 امرأة ورجل، يُعتبر الوقود أحد الاحتياجات اليومية الأساسية. وقد شيدت المدينة وأمِّنت وبُنيت لها احتياجاتها باستقلالية وبتمويل ذاتي منذ 23 عاماً على يد سكانها فردا فردا وبكد اليمين وعرق الجبين وتحمل المشقات والصعاب.


وتحتاج أجهزة المدينة المتكاملة لأدائها اليومي إلى مادة الوقود الحياتي ومن لايعرف أن عدم تشغيل معدات ضخ وتصفية المياه الضخمة والمتسشفيات ومذاخر الأغذية والادوية والمطابخ والمخابز والبرادات بسبب حالة الكهرباء الغير مستقرة وفي وقت ليس فيه وقود لتشغيل المولدات التي من شأنها إدارة الحياة كلها توفير الحد الأدنى من التدفئة وتشغيل باقي المنشآت سالفة يمعنى توقف عجلات الحياة؟!


وهذه الحاجة الحيوية واضحة وضوح الشمس وقد أقرت بها وزارة النفط العراقية رسميا ووافقت في حينها على حصة نفط شهرية بالغة مليون لتر لشراءها لـlaquo;أشرفraquo; حتى نهاية عام 2006 وتؤيد ذلك الوثائق والمستنداتها الخاصة بالشراء والدفوعات الموجودة بيد أنه وفي نهاية عام 2006 ونتيجة لضغوط نظام الملالي الحاكمين في إيران توقفت رسميا حصة أشرف وإمكانية شراء الوقود حيث أجبر سكان أشرف على تأمين الوقود بتكلفة بعدة أضعاف من دول مجاورة وإيصالها إلى laquo;أشرفraquo; وبمواجهتهم لألف مشكلة ومشكلة في النقل والحركة والاجراءات وبطرق تفوق التصور.


وأذكر ذات يوم قبل ستة سنوات كان المرحوم الأستاذ حسين فتال المدير العام لتوزيع الوقود في العراق (وكان أحد الشخصيات البارزة في وزارة النفط والمدير العام لتوزيع النفط بين عامين 2003 ndash; 2004 والذي استشهد إثر عملية إرهابية وكان يدافع دوما عن هذه الفكرة التي تقول إن أي إنسان مقيم في العراق مهما كانت جنسيته ومهما كانت أفكاره وعقائده يجب تأمين وقوده كتوفير المواد الغذائية له)، يقول بلهجته الحلوة: أتعرف أنني مسؤول على حياة وممات العراقيين كلهم؟ وعندما واجه ظاهري المتعجب تابع كلامه قائلاً: laquo;عندما يولد مولود في المستشفى، المستشفى تحتاج إلى الكهرباء وأنني أنا الذي أومن لمولداتها الوقود وعندما يتوفى شيخ تنقل جنازته بالسيارة وأنني أنا الذي يتوجب عليه تأمين وقودها ولذلك فالوقود في العراق والآن بالذات يعتبر كل شيء فلذلك اسميناه بمادة الحياة والمماتraquo;.


وفي يومنا هذا يبدو أن لجنة قمع laquo;أشرفraquo; في الحكومة العراقية عازمة ومصرة وبنفس المنطق والفكرة على قتل سكان أشرف تدريجيا وفيما هي تمارس مساعيها القمعية منتظرة رضى وعطايا من كلفوها بذلك وأحزنها أنها ليست قادرة على تكرار مجزرة 28 و29 يوليو/تموز الماضي بسبب وقوع مراجعها تحت الضغوط الدولية و أصحاب الضمائر الحية في العالم.. لذا نراها التجأت إلى السلاح الوحيد المتبقي عندها إلا وهو الحصار اللوجستي وسد الطريق امام الوقود وغيره إلى أشرف وهذا أمر يفطر القلب مهما كانت معتقدات الإنسان ودينه وتعلقاته المذهبية..وفي نفس الوقت لن تؤدي مساعيهم الى تركيع من في اشرف بل ستزيدهم عزما واصرارا.


وحسب إطلاعي بصفتي المسؤول اللوجستي في أشرف، أن العالم لم يطلع لحد الآن على واحد بالألف مما تحملته أشرف وسكانها من ضغوط ومحن لاتزال قائمة أضف الى ذلك الحصار التام والشامل عليها.. واليوم مضى ثمانون يوما من برد الشتاء ولم تدخل قطرة وقود إلى أشرف.. ولم يكتفوا بذلك فحسب بل قاموا باعتقال مواطنين اثنين من العراقيين الشرفاء من قبل ضباط أمنيين في مدخل laquo;أشرفraquo; وزج بهما في السجن وأحدهما يسمى إبراهيم والثاني عثمان من سواق صهاريج الوقود اللذان حاولا إيصال الوقود إلى سكان أشرف في 16 من أكتوبر الماضي. وبعد 20 يوما من إعتقالهم أصدر قاضي محكمة قضاء الخالص حكمه ببرائتهم وأكد على شرعية عملهم بيد أنه لم يتم السماح لهما بالدخول إلى أشرف ثانية حيث أغلقت الطرق كلها علينا وحسبنا الله ونعم الوكيل.


وفي الأسبوع الأول من الشهر الفائت كانون الأول/ ديسمبر وفي حوار لي مع ممثل لجنة القمع ويدعى صادق، ذكّرته بكلامه معي قبل خمسة أشهر في laquo;سردابraquo; (سرداب وبالفارسية rdquo;دخمةrdquo; وكان زنزانة صغيرة تم نقلي أنا و35 آخرين من أصدقائي إليها بعد أن اختُطفنا في اقتحام 28 يوليو/ تموز 2009 من قبل ضباط أمنيين وتعرضنا للتعذيب بيدهم.. وكان laquo;صادقraquo; يذرف دموع التماسيح لنا بالنيابة عن الحكومة العراقية وكان يتباكي علينا ويقول إن تعاملنا معكم إنساني فتعاونوا معنا كي ننقلكم إلى فندقا ذات خمسة نجوم ونوفر لكم أطيب الإمكانيات ولاشك أن قصده كان الخيانة والندامة أمام دكتاتورية ولاية الفقيه لكنه لم يسمع منا ردا سوا laquo;هيهات منا الذلةraquo; وأخيرا وبعد مرور 72 يوم من الإضراب عن الطعام تم إعادة هؤلاء الـ36 إلى أشرف وهم لايبعدون عن الموت سوى ساعات قليلة) وعندما سألته عن التعامل الإنساني والتهديدات التي تحدق بحياة سكان أشرف أغتضب وقال إن الوضع يبقى على ما هو الآن ولن يدخل أشرف وقود.


نعم إن ما يمارسونه هو أبشع أنواع الحصار وأكثره ظلما وقساوة على مدينة لاشك أنها أكثر مدن العالم ثقافة، مدينة لايمتلك قاطنوها سوى عشق الحرية وهمهم هو تخليص أبناء شعبهم.. لا شك أن هبَّة وبرد الشتاء وقسوة وقعه عليهم وحتى الجوع والعطش ستحلل أجسامهم غير أنه لن تصباب إرادتهم الفولادية بضعف أو خلل ناهضين ماضين لإحقاق حقوق شعبهم وهذه هي الحقيقة التي أثبتتها العقود الثلاثة من المقاومة والنضال وخاصة السنوات السبع الماضية.. ولن يبقى سوى عار وشنار ابدي على جبين العملاء والمرتزقة الذين ينفذون مشروع نظام الحكم القائم في إيران والذي بات سقوطه قاب قوسين أو أدنى ومع ذلك لن يفيق أولئك النيام المختوم على قلوبهم..وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين.


*المسؤول اللوجستي في مخيم أشرف لمجاهدي خلق الإيرانية في العراق
[email protected]