quot;لا أعرفquot;، لا أدريquot;، لست مهتماquot;، quot;لا يعنينيquot;، quot;ليس من مشمولاتيquot;، عبارات أسمعها يوميّا تتردّد بين زملائي و أصدقائي الشبّان ذكورا و ايناثا.وتزداد تكرار كلما تعلّق الأمر بموضوع على علاقة بالشأن العام حتى أنني قد أتساءل إن لم يهتمّ الشباب التونسيّ بمشاكله فبماذا سيهتمّ؟
شخصيّا، نشأت في بيئة العزوف واللامبالاة وتعليق المشاكل على مشاجب الغير وانتظار quot;الفرجquot; الآتي بلا ريب، ولم أكن لأطرح عدّة تساؤلات عن أسباب عزوف الشباب في بلادي عن الشأن العام والقضايا التي تعنيه من قريب أو بعيد، لو لم أسمع مّمن يكبروننا سنّا أنّ الوضع لم يكن كما هو عليه اليوم..فما الذي حصل !
نسمع ونقرأ عن عقود ماضية، كان فيها الشباب العامل والطلابيّ في طليعة القوى الحية للمجتمع التونسيّ التي تفكّر وتعمل وتضحّي بالغالي و النفيس من أجل مستقبل أفضل للبلاد.
لذلك، بات من المشروع أن نتساءل عن أسباب عزوف الشباب عن الاهتمام بالشأن العام ومن بينها العمل السياسي والنقابيّ و الحقوقيّ والفكري والثقافيّ، في الوقت الذي كان فيه الإقبال ضخما وحاشدا ومدويّا في ستينات وسبعينات القرن الماضي، خصوصا عبر الفضاء الجامعيّ الذي كان مسرحا لتلاقح وتلاقي وتحاور وتناظر مختلف التيارات والكيانات والأفكار والعقائد.
كغيره من شباب العالمين الغربيّ والعربيّ، يعزف الشباب في تونس عن ممارسة السياسة و النقابة وغيرها من الأنشطة الجمعياتية التي تصقل السلوك والأفكار و تربيّ الفرد على تنمية اقتداراته الذهنية و الفكريّة وتربّيه على تقبل الرأي المخالف و التسامح و تنسيب المواقف و ترشيد السلوكات، ونلمس هذا العزوف في وقت تزداد فيه أمراض الشباب الاجتماعية فتكا يوما بعد يوم من عنف لفظي وماديّ وتصعب رياضي وجهويّ وإقبال على الكحول و المخدرات والممنوعات مرورا بالهجرة السريّة و quot;الحرقةquot; و quot;الفصعةquot; وصولا إلى الارتماء في أحضان الإرهاب و الفكر المتزمّت وغيرها من المظاهر و السلوكات المدمّرة.
وبعيدا عن إعادة سرد الأسباب المألوفة والمكرّرة لذلك العزوف والمتمثلة في سقوط الأفكار الكبرى وتلاشي سطوة الايدولوجيا، التي كانت quot;تقصفquot; عقول الشباب وبالتالي تشكل لهم خياراتهم والقضايا ذات الأولوية في الدفاع عنها بكل السبل، و ما يقال بالتوازي عن اشتداد القمع و الترهيب من طرف الحكومات، اعتقد أنّ مشكلة عزوف الشباب التونسي عن كل ما يهمّه مقابل تزايد اهتمامه بما لا يعنيه و لا يفيده، تعود إلى طبيعة من ألقوا على عاتقهم مهمة quot;المصالحةquot; بين الشباب وقضاياه من جهة، وانتشار وسائل الاتصال المُعولم التي أثرت شديد الأثر على quot;المغامرةquot; بفعل ميدانيّ مهما بدا مأمون العواقب.
لم يعد الشباب برأينا مستعدّا لتحمّل عناء مطالعة الكتب والمجلدات و( وجع الرأس) والانتقال إلى مقرات الأحزاب والجمعيات للاستماع إلى شيوخ وكهول يلقون الخطب الخشبيّة التي سمعها مرات ومرات، وقد تنتهي تلك الخطب بمضايقات وتحرشات أعوان الأمن المرابطين ليلا نهارا أمام مقرات الأحزاب و الجمعيات المستقلة، إذ أضحى بإمكان الشاب و بضغطة زرّ أن يتلقى وبسرعة فائقة ما يريده من معلومات و أفكار و تفاسير لتساؤلاته بأقلّ جهد و بأقلّ متاعب.
وساهمت الانترنت في زيادة وتعميق المعرفة المتبادلة بين البشر، وشبابهم، لكنها ساهمت أيضا في quot;قتلquot; العمل الجماعي الميدانيّ الفاعل وبدأنا ندخل مرحلة تعويض الفعل الواقعيّ بالفعل الافتراضيّ.
من ناحية أخرى، لا مناص من الإقرار بانّ جلّ السّاعين إلى quot;الصلحquot; بين الشباب والشأن العام وجب إحالتهم إلى التقاعد أو إعفائهم من هذه المهمة على الأقلّ بعد أن فشلوا في الاختبارات الأوليّة.
العجيب أن كلا الطرفين سلطة ومعارضة، في تونس كما في غيرها، يرفعان شعارات جميلة عن الشباب وضرورة الاقتراب منه، و الإصغاء إلى مشاكله، ومساعدته في الاهتمام بما يجيش في صدره من معضلات لم يجد لها من حلّ وهي كثيرة، لكن ما خفي أعظم!
ذكر لي مدوّن شاب منذ أيام خلال دردشة الكترونية قصيرة إنه quot;محاصر من سياسة شبابية رسميّة لا تعترف سوى بالشباب الذي ينضوي تحت لواء الحزب الحاكم و أنا لست منهم، و بين تصورات (ثورجية) من جهة المعارضات، تبحث عن الشباب المنضبط المقاتل المستعدّ للموت في سبيل دحر النظام القائم في تونس والحلول محلّهquot;.
ولم يجانب هذا الشاب الصواب بعباراته تلك، فكلّ الشعارات والخطب والتصورات والأجندات و البرامج و الخطط التي أقيمت و تقام و ستقام لفائدة هذه الفئة، لم تخرج يوما عن هذا التجاذب مما ينفي عن كلا الطرفين ادعاءات الاهتمام بالشباب ممن فهموا باكرا وبذكاء النوايا الحقيقيّة لمن يزعمون الوقوف إلى جانبهم، فالحكومة تريد شبابا مجنّدا لفائدتها والمعارضة تريد جنودا آخرين في خدمة برامجها السياسيّة الطامحة إلى التغيير، في حين يريد الشاب شغلا وحياة كريمة سواء بقت الحكومة أو تغيّرت، سواء حكم يساريّ أو إسلامي أو ليبرالي أو قوميّ أو حكم العفريت الأزرق نفسه.
و لئن كان من حقّ كلا الطرفين العمل وفق هذا المنظور و تلك الزاوية quot;السياسويةquot; الضيقة مع جيل الشباب المُتقد حيوية وحماسة، فإنه لا ضامن بعد اليوم من إمكانية اقتناع هذه الشريحة العمريّة بصدق الشعارات التي تطلق خصوصا وأنها ترفق في غالب الأحيان بشعارات سوق الخردة و(الفريب) التي عفا عنها الزّمن ولم تعد تقنع حتى من يطلقها من قومجيين ويسراويين وإسلامويين فما بالك بشباب القرن الحادي والعشرين المتحرّر من الإرث الإيديولوجي الثقيل الذي ميّز العهود الماضية.
شعارات ووعود أطلقت بلا حسيب ولا رقيب،أنصت إليها الشباب تارة بشغف وطورا بلا مبالاة، لكنّ الثابت أنها بقيت quot;متخلدة بالذمةquot; إلى يوم الناس هذا، فقد حقّق سياسيّونا رقما قياسيا في استصدار الشعارات وجادت قريحتهم بالشعارات الرنانة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
شعارات من البحر إلى النهر و من المحيط إلى الخليج: الوطن و الوطنية، القدس، الأمة العربية، المواطن، الكرامة، الأرض والشعب، الوحدة الوطنية، فلسطين،لبنان،العراق، المقاومة و الحريات و الديمقراطية و النصر و التنمية والوعد الصادق و الوعد الكاذب..إلخ
وهي شعارات أطلقتها الحكومات و المعارضات على حد سواء لاستمالة عواطف الشباب وصدرت عن الوطني والماركسى والإسلاميّ و القومي ومن لا عقيدة له، والنتيجة لا وطن ولا مواطن ولا قدس ولا كرامة ولا حرية و لا ديمقراطية و لا تنمية ولا quot;جيش محمد العائدquot; و لا quot;الوحدة العربية المزعومةquot; و لا quot;ديكتاتورية البروليتارياquot; ولا quot;الأممية الشيوعيةquot;..إلخ.
لقد بات من الضروريّ اليوم القطع نهائيّا مع ما يسمّى quot;شعارات الحد الأقصىquot; التي لا تزيد الوضع إلا تعقيدا ولا تزيد الشباب إلا عزوفا على عزوف واغترابا على اغتراب، فمن الصعب بمكان إقناع quot;المُسيّسquot; بجدوى تلك الشعارات في عصر العولمة و العلم والمعلومات والتكنولوجيا و انهيار الحدود، فما بالك إن كانت المهمة فكّ عزلة شاب يافع وانتشاله من لا مبالاة رهيبة تحيط به من كل صوب وحدب.
الحلّ بالتأكيد لن يكون عبر طرح البرامج والشعارات التي تعلن منذ أول لقاء أنها تريد تغيير الأوضاع القائمة وعلى رأسها الأنظمة وأحياناً قلبها جذريا والجلوس على خرابها وأطلالها.
وقد تكون تلك الشعارات مشروعة لدى البعض، ولهم مطلق الحق في ترديدها و تبنيها وإقناع العامة بها، لكنها تتطلب حدا أدنى من الحرية التي برأينا لم تكن يوما متوفرّة بسبب السياسات القمعية وردود الفعل البوليسية للحكومات التي تجابه تلك الشعارات وعزوف السواد الأعظم من الناس عن السير وراء من يطلقها. بالنتيجة وفي خضّم هذا الجوّ المشحون سيجد الشاب نفسه لزاما على (قارعة) الأحداث والمستجدات وسنستمع حتما إلى جوابه التلقائيّ: quot;لا يعنيني quot;.فإلى متى يستمرّ هذا الوضع؟
في 21 كانون الأول (ديسمبر) 2009 صدرت ضدّ 16 طالباً من خيرة الطلبة التونسيين أحكاما قاسية لأنهم خاضوا تحركاً احتجاجياً في جامعة laquo;منوبةraquo; للمطالبة بحقّ زميلاتهنّ الفتيات في السكن في المبيت الجامعيّ التابع لوزارة التعليم العالي، وهذه ليست المرة الأولى التي تعامل فيها الحكومة التونسية الشباب الطلابيّ بالأمن والقضاء والترويع و السجون،على الرغم من أنّ ذات الحكومة تروم تصدير سياساتها مع الشباب إلى كل دول العالم وقد نجحت (بقدرة قادر) في ذلك، و أعلنت الأمم المتحدة أنّ السنة الحالية ستكون سنة دولية للشباب استجابة لمبادرة أطلقها الرئيس بن علي.
الدعوة التي وجب إطلاقها إلى من يسُوسنا ومن يعارضونه في آن، تتطلّب القليل من رحابة الصدر و الاستماع و الانتباه، إذ نعتقد أنّ الشباب الذي هو ضرورة أداة التنمية ووسيلتها وغايتها لاعتبارات ديمغرافيّة و اقتصادية و اجتماعية و ثقافية متعدّدة، سيُلبي النداء حتما لو حصل ما يشبه quot;الاتفاقquot; بين من يجابهه بالهراوات الغليظة من جهة ومن يحرّضه ويلعب على أوتاره الحسّاسة بشعارات (الروبافيكا) السياسية التي ولت بغير رجعة.إذ نعتقد أنّ تحييد الشباب عن تصفية الحساب quot;السياسويةquot; بات مصلحة وطنية استنادا إلى حجم التحديات التي تنتظر البلاد و المنطقة في المرحلة المقبلة.
فتقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية لعام 2009 الذي نهمل ما ورد فيه ونهاجم من أعده بدعوى عدائه لـquot;الأمةquot;، حمل الكثير من المحاور التي وجب على الجميع الالتفات إليها أملا في الإصلاح، لعلّ أبرزها أنّ معدّل الأمية في بعض الدول تبلغ الخمسين بالمائة وأنّ نسبة البطالة في العالم العربي تتراوح بين 20%-25% و أنّ عدد سكن المنطقة العربية سيبلغ عام 2015 قرابة الـ 400 مليون نسمة، مما يعني - لو تواصلت الأمور عما هي عليه الآن - المزيد من المعطلين عن العمل و المزيد من الفقراء و المزيد من الجياع وبالتالي مزيدا من الإرهاب ومزيدا من الانحراف، وسيكون شباب اليوم المتضرّر رقم 1 من كل ذلك.
قصارى القول إنّ الحكومة تتحمّل المسؤولية الكبرى في ما آلت إليه أوضاع الشباب نتيجة لسياساتها quot;الأمنويّةquot; الخاطئة وسعيها الدؤوب من أجل خلق شباب تابع منضبط لا يفكّر ولا يجادل بل ينفّذ و يهلّل ويصفّق،ولا نبرئُ المعارضة هي الأخرى من تقاعسها في تقديم برامج وحلول تناسب روح العصر وتتناغم مع تطلعات هذه الفئة العمرية و إن كنا نقرّ بأنّ المعارضات لم تُمنح لا الفرصة ولا الوقت و لا الفضاء لتقدم برامجها بسبب الحصار المضروب من حولها و الذي يمنعها من استنشاق الأوكسجين، لكن ذلك ليس مبرّرا كافيا لنغضّ الطرف عن تقاعسها...فالتحديات التي تجابه البلاد خلال السنوات المقبلة لا تترك لنا مجالا للشكوى و البكاء.
التعليقات