بعيدا عن التصنيفات الطائفية التي لا توفر مدخلا حقيقيا لفهم الحالة العراقية، فإن السؤال المهم الذي طرحه أحد الإعلاميين العرب ( هل يوجد بعثيون في العراق )؟ يكون الجواب عليه ببساطة شديدة و من دون اللجوء للفذلكات اللغوية أو المحسنات اللفظية و البديعية بنعم كبيرة و كبيرة جدا! لأن حزب البعث في العراق كما نعلم و تعلمون لم ينته حكمه و يتلاشى نظامه بفعل الشعب العراقي و قواه السياسية و العسكرية؟ بل أنه تلاشى و أنتهى و نزل تحت الأرض بفعل فاعل و هو القوة العسكرية العظمى للولايات المتحدة و حلفائها! و هو بالتالي النظام الوحيد في العالم الذي أسقطه التدخل الخارجي و كان إسقاطه على مراحل ووفق برنامج محدد سلفا، فالجميع كان يتوقع أن سقوط نظام البعث العراقي كان سيتم مع الهزيمة العسكرية الكبرى في حرب تحرير الكويت و هي الهزيمة التي هشمت تماما إمكانيات و قدرات الجيش العراقي التي نمت خلال الحرب الطويلة و الماراثونية مع إيران، ولكن في ربيع 1991 وفي لحظة نادرة من لحظات تشكل ما كان يسمى بالنظام الدولي الجديد صدر قرار الإبقاء على النظام المهزوم ووضعه في القفص و اللعب معه لعبة القط و الفأر التي إمتدت و تشعبت و ألقت بهمومها و أثقالها على الشعب العراقي برمته الذي عانى من أقسى حصار لشعب من الشعوب في تاريخ العالم الحديث، حصار هشم القواعد الطبقية و الفكرية و المجتمعية و أسس لحالة الخراب النفسي التي نعيشها حاليا، و تمكن نظام البعث طيلة العقد و نيف من السنين أن يتكيف مع الحصار رغم حالة التآكل الوطني المريعة ثم جاء قرار التخلص من النظام و إطلاق رصاصة الرحمة عليه لينهار بعد حرب العشرين من مارس 2003 و تدخل الدبابات الأمريكية بغداد في واحدة من أشد المشاهد عجائبية و غرابة في العقد الأول من القرن الحادي و العشرين، ووجه الغرابة أنه في مطلع القرن العشرين و تحديدا في مارس 1917 دخل الجنرال الإنجليزي ستانلي مود بقواته لبغداد التي طرد منها العثمانيون و هو يقول: جئناكم محررين لا فاتحين!! وفعلا أقيم أول كيان وطني عراقي منذ العصر العباسي في صيف 1921 بمعاونة إنجليزية محضة حتى أن حدود العراق و خريطته الحالية لم تكن بالصورة الراهنة لولا الموقف الأنجليزي الذي إنتزع الأنياب الطورانية التركية من ولاية الموصل عام 1925 و من خلال قرارا عصبة الأمم وقتذاك، و تكرر المشهد و لكن بطريقة مأساوية و مهولة في ربيع 2003 و حيث إنهارت الدولة العراقية القديمة التي أسسها الإنجليز و بدأ ( الفرهود ) العام الذي إنطلق بصيغ و أدوات شتى و حيث ما زال العراق بعد سبعة أعوام من الإحتلال يتلمس طريقه في محاولات لبناء دولة جديدة على أنقاض التي تهاوت؟ وفي ظل ما جرى من أحداث أين ذهب البعثيون؟ هل تفشى وباء أدى لإنقراضهم جميعا؟ أم أن ظاهرة كونية أدت لإنقراضهم كظالديناصورات تماما؟ أم أنهم ذابوا في الوضع الجديد بملايينهم السبعة المعلنة؟ و بجيوش قدسهم و بجحافل جيشهم الشعبي و بألوية فدائيي صدام و بقطعات الحرس الجمهوري و فرقه المدرعة. و بالتنظيمات الإستخبارية المختلفة من مخابرات و أمن قومي و غيرها من التشكيلات؟ إن البعثيين لم ينقرضوا بكل تأكيد بل أن ما حصل هو حالة خاصة و غير مسبوقة من التلاشي و الذوبان و الإنحناء للرياح العاصفة التي هبت بكل قوة على العراق و عموم المنطقة، فليس سرا أن حزب البعث و بعد هيمنة صدام حسين المطلقة عليه تحول لحزب سلطة بعد أن تلاشت تقريبا القيادات الحزبية التي تستطيع التأثير في القرار العراقي و تم إختزال الحزب بالرئيس و عائلته و جماعته و تحول لمجرد وعاء تنظيمي كبير للمنخرطين في إدارة عجلة الدولة العراقية و مؤسساتها، و كل القرارات الكارثية الكبرى التي أتخذت منذ عام 1990 و تحديدا قرار غزو دولة الكويت كانت قرارات فردية لم تعلم بها لا القيادة الحزبية و لا حتى القيادة العسكرية العليا التي هي خارج نطاق العائلة الحاكمة، فحزب البعث العراقي الذي تمكن من القفز مرتين على سدة السلطة تمكن شخص كصدام حسين من كسر عنقه و لوي ذراعه و الهيمنة عليه لأسباب و ظروف بعضها ذو علاقة شديدة بملفات الصراع الدولي على العراق!! ومخطيء كل الخطأ من يردد عبارة إن حزب البعث كان يعبر عن قيادة السنة للعراق؟ فتلك فرية كبرى لا علاقة لها بالواقع الميداني، فالحزب في عقيدته العامة هو علماني حتى النخاع رغم أن صداما في سنواته الأخيرة حاول إضفاء مسحات روحية و صوفية على الحزب إلا أن ذلك كان مجرد هرطقة صدامية لا علاقة لها بفكر البعث العلماني المتجذر، و كانت القيادات الشيعية فيه نشطة و عاملة منذ مرحلة التأسيس أيام الر فاق عبد الزهرة لولاح حمادي المعروف ب ( سعدون حمادي )؟ و فؤاد الركابي و حازم جواد و طالب شبيب و حتى أيام السقوط ممثلة في آخر مسؤول و قيادي بعثي ظل في الواجهة الإعلامية حتى النهاية و هو محمد سعيد كاظم الصحاف!! و يتكرر السؤال المثير للدهشة أين توارت ملايين البعثيين بعد أن تركوا قائدهم يهرب وحده لمسقط رأسه و يتشتت شمل العائلة الحاكمة بين صريع و طريد و هارب و مختفي و لاجيء في عواصم الجوار؟ الجواب سنجده طبعا في الفرق و الميليشيات التي ظهرت بعد سقوط النظام و شكلت ظاهرة طائفية واضحة طبعت مسيرة و سيرة عراق الإحتلال و الفوضى، فجيوش المهدي و الصحابة و الراشدين و المجاهدين بكل أشكالهم و اطيافهم ليسوا في الأصل سوى جماعات بعثية إتجهت لولاءاتها الطائفية بعد إنهيار الدولة المركزية. و حتى طبقة السياسيين الجدد التي شاركت في العملية السياسية بعد طول تمنع و تردد و هروب ضمت غلاة البعثيين السابقين بدءا من أعضاء البرلمان و ليس إنتهاءا بمناصب حساسة رفيعة أخرى في النظام العراقي الحالي لم تزل أمينة لولاءاتها البعثية السابقة رغم تغيير جلودها و عناوينها العلنية إلا أنها في السر تتصرف تصرفا آخر بالمطلق؟ و بالتالي فإن الوجود البعثي السابق قد طفح من جديد و لكن بأسلوب و صيغة مختلفة بالكامل عن السابق، لقد تعرض البعثيون لمطاردات و حملات إنتقام و قتل منهم الكثير، ولكن أعدادهم بالملايين و لا يمكن بالتالي القضاء عليهم جميعا لأن ذلك مستحيل بالمطلق، وقد شهد حزب البعث إنطلاقة مفصلية و محورية جديدة إعتبارا من عام 2006 حينما إستطاع لم صفوفه و برزت قيادات بعثية شابة كانت في الصفوف الثانوية تقدمت الصفوف بعد أن كسر حاجز الخوف الذي كان يقيد الحزب و يكبله في ظل قيادته السابقة التي كانت قيادة فاشلة بكل المقاييس و بسبب حجم الوجود البعثي السابق فإن عناصر الحزب منتشرة على كل قطاعات الدولة بل أن بعضها إنخرط حتى في الأحزاب الإيرانية المعروفة لذلك كل شيء كان مكشوفا أمامهم، فالبعثيون فاشلون تماما في العمل العلني و لكنهم في العمل السري لهم القدح المعلى خصوصا و أن هنالك إرتباطات إقليمية قد وفرت لهم عوامل هامة و مساعدة للتحرك على أكثر من محور و مجال وهذه الأمور يعرفها جيدا الجانب الأمريكي الذي كان حريصا للغاية على إدامة الحوار و التواصل مع البعثيين من خلال إتصالات معهم في دول الجوار كسوريا و الأردن و اليمن و قطر و حتى المغرب الأقصى حيث عقدت مباحثات بعثية / أمريكية في أواخر أكتوبر من العام الماضي؟ و لعل ذلك ما يفسر الحملة القوية التي أطلقها نوري المالكي ضد أي تقارب أو حوار مع البعثيين، المهم أن الوجود البعثي في العراق هو كصندوق العفاريت يحمل مفاجآت غريبة للغاية و بعضها خيالي، فالبعثيون قد حققوا إختراقا داخليا واسع النطاق لدرجة أن العديد من القوى السياسية العراقية و بعضها من الأحزاب الدينية نفسها تقوم بمراسلة البعثيين و الإتصال بهم في الداخل و الخارج لا بل ووفقا لمعلومات مؤكدة فإن بعض الوزراء السياديين العراقيين على تواصل و إتصال مع البعثيين ومع قيادة عزة الدوري بالذات وهو المتواجد في داخل العراق و يتنقل في مناطق معينة وليس كما يشاع عن وجوده في دمشق أو صنعاء أو أي مكان آخر، و لعل في سر مقاومة عزة الدوري بالذات لكل عمليات المطاردة و التعقب من ألأمور المثيرة للتساؤل. الوجود البعثي العراقي يستند أساسا لمنظومة عمل سرية و لمنظمة سرية تعمل وفق خطط مبرمجة و عن طريق قيادات عراقية شابة ليس من بينها من ابناء جيل الحرس القديم سوى عزة الدوري الأمين القطري للحزب و نائبه أحد القياديين البعثيين السابقين و غير المعروف للرأي العام، أما الباقي فهم بعثيون شباب بعضهم كان من منتسبي الأجهزة الأمنية السابقة فيما البعض الآخر غير معروف، و لحزب البعث العراقي قواعد عمل و إتصالات مهمة في دول الجوار و خصوصا في دمشق و عمان و الدوحة وصنعاء و بيروت و عواصم أخرى قد يثير ذكر إسمها مفاجأة صاعقة! المهم إن التساؤل حول الوجود البعثي و حقيقته يحمل من عناصر السذاجة الشيء الكثير!، فالبعثيون في الساحة و الميدان؟ أما مستقبل الصراع على حكم العراق فتلك قضية أخرى ذات أبعاد ستراتيجية دولية مرتبطة بإرادة العم سام! (فمن أحبته عيون العم سام لم يظلمه أو يضيمه الدهر)؟؟ تلك هي الحقيقة في ليالي العذاب و الضياع العراقية.
- آخر تحديث :
التعليقات