لعل واحدة من أبرز الظواهر الطريفة و المثيرة للتأمل التي أسفر عنها ملف إدارة الصراع الإيراني / العراقي الأخير حول حقول الفكة النفطية في أقصى شرق محافظة ميسان و التي شهدت معارك دموية طاحنة خلال الحرب العراقية/ الإيرانية الماراثونية ( 1980-1988)، هو بروز الدور الإعلامي لعشائر الجنوب العراقية ( الشيعية ) في منحنيات و ثنايا الأزمة و هو الدور الذي تفوق أداءا وحتى وطنية على دور و موقف الحكومة العراقية الذي كان يتسم بالحيرة و التخبط و عدم الحرفية في مجابهة الموقف خصوصا بعد الإهانة الكبرى التي وجهها النظام الإيراني لأصدقائه و رجاله و أحبابه في الحكومة العراقية حينما نفى تماما أي وجود لأي إحتجاج رسمي عراقي على الإحتلال الإيراني لبئر الفكة رقم 4!! رغم تدارك المالكي للموقف بشكل متأخر و حديثه الإنشائي و الفاقد لمصداقيته حول رفض حكومته للإستفزازات الإيرانية و حركاتها العسكرية!!؟، موقف العشائر العراقية المتصدي للنظام الإيراني رغم محدوديته يلقي أضواء كاشفة على طبيعة إدارة محاور الصراع الداخلي في العراق و التناقضات الداخلية الحادة التي تحكم صراعات الأحزاب الدينية و الطائفية التي تواجه تحديات وجودية حقيقية على أبواب الإنتخابات القادمة التي قد تؤدي نتائجها و كواليسها و موقف الإدارة الأميركية ( الحاكم الفعلي للعراق ) لتغييرات بنيوية على شكل و طبيعة الحكومة القادمة و بما يساهم في إضعاف النفوذ الإيراني المستشري بقوة،و إعلان العشائر العراقية عن نيتها لتشكيل مجاميع مسلحة تتصدى للنفوذ الإيراني يعيدنا و يعيد العراق لأيام الإحتلال العثماني و حيث كانت العشائر هي التي تفرض منطقها، و كانت الحروب القبلية هي السائدة في العراق و الجزيرة العربية! أي أنه إعلان صريح عن فشل السلطة و إفلاسها التام! رغم أن قوة العشائر مهما كانت لا يمكن أن تكون بديلا عن قوة السلطة و إمكانياتها، و لكن ما حصل يعيد إلى الأذهان قضية التوازن العسكري بين العراق و إيران، وهو توازن يشهد خللا ستراتيجيا كبيرا و خطيرا منذ حرب الكويت عام 1991 وحيث تهشمت القوة العسكرية العراقية التي خرجت من الحرب عام 1988 بإمكانيات تعبوية كبرى قياسا لمنطقة الشرق الأوسط، فإذا بها بعد مغامرة الكويت تتحول لهشيم و لعبيء كبير و لمشكلة حقيقية في ضوء تدهور التسليح و التدريب و الإنهيار الإقتصادي و تشتت العقيدة القتالية حتى أفرغ الجيش العراقي من قياداته بفعل الهزائم التي لم يكن لها أي مبرر و بسبب حملات الإعدام التي أقدم عليها صدام حسين ضد قيادات عسكرية بارزة لمعت خلال الحرب الإيرانية و أنتهى توهجها بعد نهاية الحرب فرئيس النظام السابق كان لا يحبذ وجود سماء لامعة تضاهيه في المقدار و ربما تعاكسه في الإتجاه!، كانت البداية مع تدبير حادث مصرع وزير الدفاع الأسبق الفريق عدنان خير الله طلفاح الذي كان صاحب شعبية بين صفوف الضباط العراقيين و حيث قتل عام 1989 في حادث طائرة مفتعل قيل أن الصهر الذي كان حسين كامل المجيد كان يقف ورائه؟ و برغم القرابة العائلية مع صدام إلا أن عدنان خير الله كان صاحب رؤية مختلفة عن إبن عمته صدام؟ و كان يجاهر احيانا بإنتقاد الأوضاع مما عجل بمصرعه لإنهاء حكاية ووجود البديل الجاهز، بعدها جرت الأمور العسكرية في العراق وفق مبدأ إنتحاري خلال تدبير جريمة غزو الكويت بمعزل عن رأي القيادة العسكرية في وزارة الدفاع حتى أن وزير الدفاع السابق الجنرال المحترف عبد الجبار شنشل لم يعرف بالغزو إلا من خلال الراديو!! حاله حال أي مواطن عادي، و لكي لا نجنح بعيدا في تقليب و خلط الأوراق و إستدعاء ذكريات و مشاهد عراقية ساخنة لم يزل يلفها الغموض، فإن الدمار الكامل الذي أصاب المؤسسة العسكرية العراقية بعد الغزو و الإحتلال ألأمريكي و إنهاء وجود الجيش العراقي و الذي تاريخيا تأسس قبل تأسيس الدولة العراقية بثمانية شهور عام 1921 يجعل من أي مواجهة عسكرية مع النظام الإيراني بمثابة عملية إنتحار حقيقي اللهم إلا إذا دخل الإيرانيون في حرب مع الجيش الأمريكي في العراق و الذي بأعداده و قدراته الحالية غير قادر على خوض غمار المواجهة مع الجيوش الإيرانية في الجيش الرسمي أو الحرس الثوري العقائدي و بجحافل الباسيج و المستضعفين و المعبئين عقائديا و حيث كانت موجاتهم البشرية خلال الحرب مع العراق هي السمة العامة لإدارة العمليات العسكرية في تلك الفترة، و الجيش العراقي الراهن و الذي تأسس بعد الإحتلال هو قوة قمع داخلية أكثر من كونه قوة تصدي ستراتيجية حقيقية، فحجم و طبيعة التسليح و ضعف الروح العقائدية و غياب التوجه الستراتيجي الواضح و ملفات الفساد و الإفساد و التسلح الوهمية التي عقدها وزير الدفاع السابق حازم الشعلان إضافة لتسلل الميليشيات الطائفية و عملاء النظام الإيراني لقلب المؤسستين الأمنية و العسكرية في العراق جميعها عوامل تجعل من الجيش الراهن مؤسسة غير قادرة بالمطلق على مواجهة القوة العسكرية الإيرانية التي تنامت قدراتها خلال التسعينيات و خلال العقد الأخير بشكل كبير جدا لا يمكن مقارنته بالوضع العراقي الذي كان يعيش وضعا متآكلا فيما كان الجيش الإيراني بنمو بإضطراد في مختلف المجالات و يجب أن لا ننسى الهدية العراقية المجانية التي قدمها نظام صدام حسين للإيرانيين قبل حرب الكويت بتهريب سلاح الجو العراقي لإيران لحمايته!!! وهي واحدة من النوادر المفجعة لنظام كان يتخبط في وحل هزائمه الثقيلة و الموجعة و حيث إبتلع الإيرانيون الطائرات و طالبوا بالمزيد كجزء من التعويضات المطلوبة عن حرب عام 1980؟ لا أدري كيف وثق نظام صدام بعدوه القديم وهو الذي لا يثق بأخيه؟؟ يظل ذلك واحدا من أكبر الألغاز التاريخية و التي لم يتم تفسيرها بشكل مقنع بعد...
المهم إن الإستفزاز العسكري الإيراني قد أثار المواجع و أوضح المواقف و جعل الأحزاب الطائفية وذات الصبغة الإيرانية في ورطة وجودية حقيقية، نعم إن موازين القوى القائمة ميدانيا ليست لصالح العراق و لكن ذلك أمر مؤقت و لن يستمر طويلا، فما هو مهم إن المزاج الشعبي العراقي لم يزل يحمل الكثير من المرارة و التوجس و حتى العداء المتأصل، لقد فشلت الأحزاب الإيرانية في تسويق النظام الإيراني للعراقيين و ما موقف العشائر العراقية إلا رجع صدى للمزاج الشعبي العام... حرب عسكرية لن تحدث في المدى المنظور على الأقل و لكن الحروب النفسية ستستمر إلى ما يشاء الله... فكل شيء في العراق مؤقت و متحول أما الوطن فهو دائم و خالد و يتوهم الإيرانيون إن تصوروا أنهم قد كسبوا الرهان فما زالت المفاجآت القادمة سيشيب لهولها الولدان.. و تلك الأيام نداولها بين الناس؟
- آخر تحديث :
التعليقات