كل أسرار الدولة التركية بشكل عام واسرار الجيش والدولة السرية بشكل خاص موجودة في هذه الغرفة، والتي يُطلق عليها إسم كوزميكquot;Cosmicquot;. الغرفة تقع في مقر quot;إدارة النفير العام quot;. تم إنشاء هذه الإدارة في تركيا في أيلول 1952من قبل حلف الناتو وبالتنسيق مع أجهزة المخابرات الخارجية وعلى رأسها المخابرات الأمريكية quot;CIAquot; في أيام الحرب الباردة. مثل هذه الإدارات أو التنظيمات السرية كان قد تم تشكيلها في العديد من دول الحلف وذلك بقصد حماية الأنظمة من وصول الشيوعية الى الحكم أو القيام بالحرب والمقاومة السرية في حال إستيلاء الإتحاد السوفييتي السابق على الدولة المعنية. هذا التنظيم كان بمثابة جيش سري مواز للجيش النظامي وكان فيه العسكري والبوليس والمدني من الوزراء والبرلمانيين والصحفيين والشخصيات المتنفذة في المجتمع من الأثرياء وأساتذة الجامعات وصولاً الى المخاتير ورؤساء العشائر ورجال المافيا.....في كل مناطق الدولة أنشئت المخابئ السرية لتخزين الذخائر والمعدات لإستعمالها حين اللزوم. في عام 1965تم استبدال إسم الإدارة باسم جديد وهو quot;إدارة الحرب الخاصةquot; وتم تصنيفها كإحدى الإدارات التابعة لرئاسة الأركان العامة. الصدفة وحدها كانت وراء إكتشاف وجود هذا التنظيم. في عام 1974 كان السيد بولند أجفيت quot;Ecevitquot; رئيساً للوزراء. جاء اليه رئيس الأركان وذلك لتصديق ميزانية الجيش وكانت الميزانية تتتضمن بنداً خاصاً تحت إسم quot;المصاريف السريةquot;. الرقم كان كبيراً مما دعا أجفيت الى السؤال عن الإدارة التي ستستعمل تلك المصاريف. وخرج من فم الجنرال، وبالصدفة، إسمquot;أدارة الحرب الخاصةquot;. إندهش أجفيت الذي عرف أن الأركان كانت تخفي الحقيقة حتى على رؤساء الوزارات في الدولة. أضطر رئيس الأركان الى قول الحقيقة واوضح بأن التمويل كان يأتي من الناتو الذي قطع الدعم المادي أخيراً وذلك بعد 25 عاماً متواصلة من التمويل الكبير، ونبه الجنرال في نفس الوقت أجفيت الى وجوب عدم إفشاء السر. أجفيت كان رئيس حزب الشعب الجمهوري وكان يعتبر قائداً يسارياً. فهم أجفيت أن هذا التنظيم ليس عدواً للشيوعية فقط، وإنما يحارب اليسار بكل أطيافه، بما في ذلك حزبه. أراد أجفيت إستغلال هذه الحادثة ليظهرللشعب أنه رجل الدولة القوي وروى للصحافة بشكل مقتضب ما جرى. عند إقتراب موعد الأنتخابات البرلمانية في عام 1977أعاد أجفيت موضوع التنظيم السري كدعاية إنتخابية بغية الحصول على المزيد من الأصوات، ولكن الرد جاء سريعاً من الدولة السرية. كان أجفيت يخطب في جمهور حاشد في مدينة إزميرفي نفس العام. أطلِقتْ رصاصة على منصة الخطابة لتصيب قدم أحد الوزراء المرافقين لأجفيت. الرسالة كانت واضحة وهي أنه بالإمكان تصفية أجفيت بكل سهولة إذا إستمرفي العناد. منذ ذلك التاريخ عرف أجفيت حده ولم ينطق بكلمة واحدة بذلك الشان، ولكنه عاد الى أحضان العسكر لاحقاً في التسعينات واصبح الرجل المعتمد للعسكر. أجفيت تلقى الدعم الكامل من الدولة السرية وجاء مرة أخرى الى رئاسة الحكومة ولكنه دخل التاريخ السياسي التركي كأكبرإنتهازي تخلى عن كل مبادئه في سبيل المنصب. للماذا فُتِحَ هذا الملف الآن؟. البوليس السري لاحظ حركات مشبوهة لرجلين في المنطقة السكنية التي يقيم فيها السيد بولنت آرينجquot;Bulent Arinjquot; نائب رئيس الوزراء التركي والمكروه من العسكر. تم القبض على الرجلين وتبين أن أحدهما هو برتبة عقيد والآخربرتبة رائد ولكنهما كانا يرتديان اللباس المدني. الرائد طلب من البوليس جرعة ماء للشرب. في نفس اللحظة التي كان يهم فيها بشرب الماء أخرج الضابط ورقةً من جيبه ليبتلعها، إلا أن البوليس تمكن من منعه من مضغ تلك الورقة. في عثرت الشرطة في تلك الورقة على إسم وعنوان آرينج وعدد آخر من الوزراء الساكنين في نفس المنطقة. بإختصار كانت كل الدلائل تشير الى وجود مؤامرة هدفها الإغتيال وبث الذعروالبلبلة. هذان الضابطان ينتميان الى ذلك التنظيم السري أي quot;إدارة الحرب الخاصةquot;. في نفس اليوم {قبل عيد الميلاد بيوم} أصدرت المحكمة أمراً بتفتيش مقر تلك الإدارة. تمكن المُدّعونْ العامون من تفتيش كل أنحاء البناء إلا غرفة واحدة وهيquot;الغرفة السريةquot; المذكورة سابقاً. بالرغم من مقاومة الأركان، إلا أن رجال القضاء دخلوا تلك الغرفة والتي أطلق عليها بعض الصحفيين quot;مخدع أوغرفة نوم الدولة السريةquot;. التفتيش لازال مستمرأ حتى تاريخ كتابة هذه السطور، وفي بعض الأحيان تصل ساعات العمل الى 22 ساعة في اليوم، حيث يتناوب عليها المختصون. كل مؤامرات الدولة السرية بدءاً من من خلق الفوضى لتهيئة الشارع للإنقلابات العسكرية وإشعال الفتن الطائفية وتهييج الشعور القومي العنصري التركي ضد الكرد الى سرقة أموال الدولة وتشكيل المافيات.....الخ كان يجري طبخها في تلك الغرفة الرهيبة. كل التنظيمات المشابهة في دول الناتو تمت تصفيتها والتخلص منها عند زوال الشيوعية. التنظم في ايطاليا كان يسمى بـ quot;غلاوديوquot; وتصفيته كانت عملية صعبة وإحتاجت الى مدة طويلة وضحايا كثيرة لأنه كان قد تحول الى المافيا، والكل يتذكرتلك الحرب الضروس التي دارت رحاها بين القضاء والمافيا في ايطاليا. السؤال هنا هو: هل ستستمرالحكومة وتتجرأ للتخلص من هذا الجرح المتقيح في أجهزة الدولة وتقدم المتورطين الى العدالة وتنهي مرحلة quot;جمهورية الدولة السريةquot; والسير بتركيا الى طريق الديمقراطية الحقيقية؟. الهدف صعب جداً والدولة السرية وقادتها لن يتخلوا بسهولة عن إمتيازاتهم من الثراء والقوة والجاه والحياة المرهفة التي إعتادوا عليها.
الصدفة، ولسخرية القدر، كانت بالمرصاد هذه المرة أيضاً.
السويد
التعليقات