نشرت صحيفة الملف برس بتأريخ 6/1/2010 خبرا مفاده، بان مجلس القضاء الأعلى في العراق قد كلف رئيس الادعاء العام للتحقيق في قضايا الفساد المالي والاداري.

ان جرائم الفساد المالي والاداري من جرائم الجنايات التي عاقب عليها قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 بعقوبات يصل حدها الاعلى السجن المؤبد، مما تعتبر من صلب واجبات الادعاء العام في تحريكها امام القضاء اذا ما علم بوقوعها استنادا للمادة(1) من قانون اصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة1971. فهي لا تحتاج لمثل هذا التكليف.
وبعد ارتكاب هذا الكم الهائل من جرائم الفساد والتدمير الاقتصادي للبلاد على مدى سبع سنوات، فان هذا التكليف قد جاء متأخرا جدا.
ولكن لا بد من التفائل والنظر الى النصف المملوء من القدح، ونعتبر هذا التحرك عملا ايجابيا، على ان يكون جادا وملموسا في مكافحة هذه الآفة.
الا ان السؤال المحير، وما دام اصبح تحريك الدعوى من قبل الادعاء العام بتكليف من مجلس القضاء الاعلى؟! لماذا لم يشمل هذا التكليف جميع جرائم الجنايات والجنح الاخرى التي هي اساسا من واجبات الادعاء العام في تحريكها امام المحاكم الجنائية المختصة كما نص القانون؟؟.


كما يعلم القضاء والادعاء العام والقاصي والداني، ان المعتقلات تعج بالاف المعتقلين من قبل سلطات الاحتلال واجهزة الجيش والشرطة والامن الحكومية بدون مذكرات توقيف من قبل قاضي التحقيق او المحكمة المختصة، بل بدون اي تهمة اي لمجرد الاشتباه!. وهذه الافعال (القبض على الاشخاص او حبسهم اوحجزهم من قبل موظف او مكلف بخدمة عامة في غير الاحوال التي ينص عليها القانون اي بدون قرار من القاضي المختص او المحكمة) تعتبر من جرائم الجنايات المنصوص عليها بالمادة 322 من قانون العقوبات، وقد تكون عقوبتها السجن لمدة سبع سنوات.


وان عدم تنفيذ قرارات المحاكم باطلاق سراح المتهمين واستبقائه الى ما بعد الاجل المحدد لتوقيفه او حبسه، تعتبر من جرائم تجاوز الموظفين حدود وظائفهم المنصوص عليها بالمادة 324 من قانون العقوبات، وقد تكون عقوبتها الحبس لمدة خمس سنوات.


لقد اصبحت جرائم التعذيب ضد المتهمين لانتزاع اعترافاتهم ممنهجا ومنظما من قبل الاجهزة الحكومية المذكورة وهي من جرائم الجنايات الخطيرة المعاقب عليها بالمادة 333 من قانون العقوبات التي نصت quot;يعاقب بالسجن او الحبس كل موظف او مكلف بخدمة عامة عذب او امر بتعذيب متهم او شاهد او خبير لحمله على الاعتراف بجريمة او للادلاء باقوال او معلومات بشأنها او لكتمان امر من الامور او لاعطاء رأي معين بشأنها. ويكون بحكم التعذيب استعمال القوة او التهديدquot;. وبموجب هذا النص يمكن ان تكون عقوبة السجن لمدة 15 سنة وحسب ما ترتأيه المحكمة.


وتشير التقارير الى موت العديد من المتهمين نتيجة التعذيب، مما يقتضي مقاضاة مرتكبيها عن جرائم القتل العمد.
كما ان مداهمة مساكن المواطنين وتفتيشها بدون قرار من القاضي المختص وتدمير وسرقة ممتلاكاتهم واهانة ساكنيها من الجرائم الخطيرة المنصوص عليها في المواد 326 و 335 من القانون المذكور. وقد تكون العقوبة السجن لمدة لا تزيد على عشر سنوات.


ان جميع الجرائم المذكورة تعتبر من الجرائم ضد الانسانية ومن جرائم الحرب لارتكابها في ظل الاحتلال، مما يعاقب عليها القانون الدولي الجنائي، اذا لم يتم احالة مرتكبيها الى المحاكم الجنائية الوطنية لمقاضاتهم ونيلهم الجزاء العادل الذي ينسجم مع مبادئ ومعايير العدالة الجنائية الدولية.
لقد ادانت جميع المنظمات الدولية الانسانية وعلى رأسها منظمة العفو الدولية ومنظمة مراقبة حقوق الانسان تلك الجرائم، مما يقتضي على السلطة القضائية وهيئة الادعاء العام في العراق ملاحقة مرتكبيها. وان المسؤول الاعلى في السلم الوظيفي في الدولة يتحمل المسؤولية الجنائية عن ارتكابها، الا اذا اثبت بانه قد اتخذ جميع الوسائل والاجراءات اللازمة لمنعها.

ان تحقيق العدالة تتطلب ان يتحلى القاضي بالشجاعة، وان خوف القاضي من بطش السلطة التنفيذية او المليشيات واصدار قراراته تبعا لاهوائها وعلى حساب العدالة، سيجعله مسؤولا عن افعاله في المستقبل وكما علمنا التأريخ عن مصير البعض من امثال هؤولاء. ان احسن الحلول في حالة عدم امكانية القاضي من تحقيق العدالة، هو التنحي عن القضاء والانصراف الى اي عمل اخر مشرف.

لقد تعلمنا من تاريخ القضاء العراقي ورغم عدم تمتعه بالاستقلال الكامل عن السلطة التنفيذية، المواقف المستقلة والشجاعة للقضاة المنقطعة النظير. وعلى سبيل المثال وليس الحصر. لقد قام القاضي احمد الطة بالاشراف على التحقيق في احداث اضراب عمال نفط كركوك (كاورباغي) في تموز 1946 التي راح ضحيتها 16 شهيدا وحوالي 30 جريحا. وقد جاء في تقريره بان المتظاهرين قد استخدموا حقهم القانوني للمطالبة بحقوقهم وكانوا عزلا عن السلاح، وان الشرطة قد تجاوزت عليهم بشكل غير معقول، وان معظم القتلى والجرحى اصيبوا من الخلف..وان الادارة قد تجاوزت صلاحياتها في حجز البعض من المتظاهرين.


ونتيجة للتحقيق قرر القاضي الشجاع اطلاق سراح المتظاهرين المحتجزين واتخاذ التعقيبات القانونية بحق quot;متصرف لواء كركوك و مدير الشرطة وعدد من ضباط الشرطة والمفوضينquot;. وفعلا احيل البعض الى المحاكم الجنائية المختصة في حينها.

الآن وحسب ما ورد بالدستور الحالي فان القضاء العراقي يشكل احد السلطات الثلاثة في الدولة ويتمتع باستقلالية تامة، الا ان هذه الاستقلالية لا قيمة لها اذا لا تترجم الى الواقع العملي في اتخاذ المواقف الشجاعة، وان يكون بمستوى المسؤوليه لوضع حد لهذه الجرائم البشعة.

رئيس جمعية الحقوقيين العراقيين

بريطانيا