رغم فظاعة الجريمة وهول quot;المذبحة القبطيةquot;،التي نفذتها مجموعة اسلامية مسلحة أمام كنيسة مار جرجس بعد صلاة عيد الميلاد في السابع من هذا الشهر في مدينة نجع حمادي المصرية،لم يكن وقوعها مفاجأ،حيث باتت الاعتداءات على الأقباط وعلى مراكز عبادتهم وأملاكهم جزءاً من المشهد المصري.لا بل،علينا توقع المزيد من هذه الأعمال البربرية في مصر وفي غيرها من الدول العربية والاسلامية،حيث أنظمة quot;الحكم الطائفيquot; أنتجت شعوباً أبدعت في صناعة الموت وفي ممارسة الارهاب وفنون القتل. وها هي اليوم تبدع في طريقة معايدة الآخر. معايدة بالدم لمسيحيي المشرق، بالأمس لمسيحيي تركيا، واليوم لمسيحي مصر والعراق، وغداً في دولة أخرى من هذه الدول العربية والاسلامية المشرقية، حيث بات فيها المسيحيون رعايا ورهائن وليسوا بمواطنين.علينا توقع المزيد من عمليات تحويل الاحتفالات في هذا العالم،المنكوب بشتى أنواع الارهاب، الى مآتم ومناحات، بعد الفتاوى التي أصدرها العديد من مشايخ وعلماء المسلمين قبيل أعياد الميلاد والتي تقضي بتحريم احتفال ومشاركة المسلمين بأعياد المسيحيين وعدم جواز تهنئتهم بأعيادهم، ومع اصرار أغلب الدول العربية والاسلامية على عدم السماح بمظاهر علنية لاحتفالات المسيحيين بأعيادهم.طبعاً،عندما تُمنع وتُحرم العلاقات الوطنية والانسانية الطبيعية في المجتمعات التي تتصف بالتنوع الديني والقومي والثقافي،كما هو حال المجتمع المصري، ستنحرف العلاقات بين مكونات هذه المجتمعات عن مسارها الوطني السليم، وستسود المجتمع حالة الاحتقان والتوتر ويتزعزع التماسك المجتمعي،ومن ثم سينزلق الى مرحلة الاصطدام العنفي والاقتتال وستدخل البلاد في حرب أهلية مدمرة وكارثية على الجميع.فهل يعي الحكم في مصر خطورة وحساسية ما يخطط له الاسلاميون المتشددون وما ينتظر مصر؟.


لا اتفق مع الذين وضعوا ما حصل لأقباط مصر ليلة عيد الميلاد في اطار الحوادث والاعتداءات الفردية التي تحصل من حين لآخر في معظم المجتمعات من دون خلفيات دينية أو سياسية.ففي هذه الوصف تمييع لما حدث وتهرب من مواجهة الأسباب الحقيقة لمثل هذه الجريمة البشعة والمخطط لها والتي تأتي في سياق ظاهرة العنف الممنهج الذي تمارسه المجموعات الاسلامية المتشددة ضد الأقباط المسيحيين،في ظل تهاون الدولة وتغاضيها،وذلك لابعاد هذه المجموعات والمنظمات الاسلامية عن القضايا السياسية الهامة المتعلقة بشؤون الحكم والسلطة في مصر.بمعنى آخر أن الأقباط المصريين هم ضحية مساومات سياسية بين النظام القائم والتنظيمات الاسلامية المتشددة.


هذه الجريمة الجديد، من حيث توقيتها وزمان وقوعها، تنطوي على أبعاد ودلالات خطيرة،فهي تكشف من جديد عن عمق quot;الجرح القبطيquot; النازف منذ عقود. فبحسب مركزquot;ابن خلدونquot;، للبحوث والدراسات العربية، وقع أكثر من 4000 قتيل وجريح قبطي بدون سبب، فقط لكونهم مسيحيين، منذ حادثة الخانكة 8-9- 1972 عدا الأضرار بالممتلكات والكنائس ودور العبادة تقدر بمئات الملايين من الدولارات.كل هذا حصل ويحصل في quot;جمهورية الخوفquot; وquot;دولة الإيديولوجيات المهزومة والشعارات الثورية الخاويةquot;، التي أقامها جمال عبد الناصر ورفاقه في حركة الضباط الأحرار الانقلابية.هذه الدولة، أسست للاستبداد السياسي وللنهج الطائفي ونشرت بذور الغلو والتطرف القومي والديني وكرست سلطة العسكر في المجتمع المصري.فباسم الاشتراكية،أصدرت الحركة الناصرية قوانين التأميم التي أنهكت الاقتصاد المصري و صادرت بموجبها المنشئات الاقتصادية الهامة التي كانت تعود ملكية الكثير منها للأقباط المسيحيين. ووضعت دستور جديد لمصر في 16 كانون الثاني 1956 نص على أن quot;الإسلام دين الدولةquot;، الأمر الذي ألغى مبدأ المساواة القانونية في حقوق المواطنة بين المسلمين والمسيحيين.ومن بعد عبد الناصر جاء نائبهquot;أنور الساداتquot;،ولكي يستقطب الشارع الاسلامي المتشدد و الغالب في مصر وليعزز موقعه في السلطة،أعلن رسمياً في أيار عام 1980 بأن quot;الشريعة الإسلاميةquot; هي مصدر القانون والتشريع المصري.الخطوة التي سرعت عملية quot;أسلمة الحياةquot; في مصر وشرعنة الاضطهاد، الرسمي والشعبي، للأقباط المسيحيين وتهميشهم بطرق وأشكال مختلفة(استبعادهم من المناصب السيادية والسياسية الهامة في الدولة.سن قوانين تحد من نشاطاتهم الخاصة و تقيد حريتهم الدينية والاجتماعية وعدم السماح لهم ببناء كنائس جديدة أو توسيع وترميم ما هو قائم منها.رفض تعديل قوانين الأحوال الشخصية بما يحفظ ويضمن الحقوق الدينية والاجتماعية للأقباط المسيحيين). طبعاً، الهدف الاستراتيجي والبعيد من كل هذه الاجراءات الشوفينية والقوانين العنصرية الجائرة، هو فرضquot;الإسلامquot; على الأقباط المسيحيين وطمس هويتهم كشعب مصري أصيل أو دفعهم الى الهجرة وترك مصر.


لا شك، أن غياب الأحزاب السياسية والحركات القومية الخاصة بالأقباط، تتولى مسؤولية المطالبة بحقوقهم السياسية والثقافية والدفاع عن حرياتهم المدنية والدينية، سهل كثيراً عملية تهميشهم وجعلهم من غير وزن سياسي وخارج المعادلات السياسية الداخلية، رغم ثقلهم البشري والاقتصادي الجيد نسبياً. لكن هذا لا يعني قبول الأجيال الجديدة من الأقباط المصريين بتهميشهم وإقصائهم عن السياسية وعن المشاركة في حكم مصر وتقرير مصيرها ومستقبلها.كما لن يبقى الأقباط مكتوفي الأيدي إزاء استمرار التعديات والمظالم عليهم. فمن المتوقع أن تتصاعد الاحتجاجات القبطية داخل مصر وخارجها،وأن تدفع المظالم والاضطهادات الشارع القبطي في مصر للتمرد وتأسيس احزاب وحركات قبطية تتولى الرد على التعديات التي يتعرض لها الأقباط، طالما تخلت الدولة عنهم.وما يزيد ويرجح مثل هذه الاحتمالات، تحرك الجاليات القبطية في دول المهجر. فقد استطاعت هذه الجاليات في السنوات القليلة الماضية كسب تعاطف وتأييد منظمات أوربية وأمريكية و دولية مع quot;القضية القبطيةquot;،بعد عدة مؤتمرات دولية دعت اليها النخب القبطية في المهجر، كشكل من أشكال الضغط الدولي على النظام والحكومة في مصر لتحسين أوضاع الأقباط. وبالفعل جاءت ردة فعل الشارع القبطي الغاضب متميزة هذه المرة على مذبحة عيد الميلاد.فبحسب التقارير الواردة من داخل مصر،أنزل الأقباط المحتجون ولأول مرة صورا للرئيس quot;حسني مباركquot; وحطموها وأضرموا النار في عدد من السيارات الحكومية وقذفوا مقر شرطة النجدة ومسجدا بالحجارة،فضلاً عن تصريحات جريئة وعلنية هذه المرة أطلقها العديد من رجالات الكنيسة القبطية تهموا السلطات المحلية والمعنية بالأمن بالتواطؤ مع القتلة وحملوها مسؤولية وقوع المذبحة.هذا يعني هناك مقاربة قبطية جديدة، على مستوى النخب والجماهير والكنيسة، لمشكلات الاقباط وقضاياهم الحيوية.تقوم هذه المقاربة وتتمحور حول تحميل أسباب quot;المشكلة القبطيةquot; الى الدولة المصرية، فهي المسؤولة قانونياً وأخلاقياً عن أمن وحياة جميع مواطنيها.


في ظل استمرار الاحتقان الطائفي في مصر،الذي تقف خلفه القوى السلفية والأصولية المسلمة في مقدمتها quot;حركة الأخوان المسلمينquot;التي تهدف الى اقامة نظام quot;حكم اسلاميquot; في مصر وفي ظل تهاون النظام مع نشاط هذه الجماعات الاسلامية المتشددة، من المؤكد لن تكون مذبحة عيد الميلاد الأخيرة،حتى لو تم احتواء ردود افعال وغضب الشارع القبطي. إذ، ستبقى quot;المشكلة القبطيةquot; مرشحة للتفاقم والانفجار وتنذر بإشعال حرب طائفية، ما لم تسارع الحكومة الى اخراج quot;الملف القبطيquot; من يد الأجهزة الأمنية.لأن القضية القبطية ليست بقضية أمنية أو جنائية،وانما هي قضية سياسية وحقوقية وانسانية. فالأقباط،سكان مصر الأوائل،هم شعب مضطهد بسبب عقيدته المسيحية،على المستوى الرسمي والشعبي، حيث تمارس بحقهم سياسات تميز ديني وثقافي واجتماعي،فضلاً عن استهدافهم بشكل منظم من قبل المجموعات الاسلامية المتطرفة والارهابية.من هذا المنظور أرى ضرورة وضع الملف القبطي في ذمة أو عهدة القيادات السياسية العليا والحزب الحاكم، ليصار الى معالجته معالجة سياسية وطنية في اطار حقوق المواطنة الكاملة وعلى قاعدة الشراكة الحقيقة في الوطن بين المسلمين والمسيحيين وانهاء كل اشكال التمييز أو التفضيل في الحقوق والواجبات بين أبناء الوطن الواحد.

سليمان يوسف يوسف

سوريا
مهتم بقضايا الأقليات
[email protected]