أبكتنا كلنا أحداث نجع حمادى الأخيرة.. خرج المصلون من صحن الكنيسة مستقبلين أولى لحظات عيد الميلاد المجيد تتلفحهم برودة ليل الصعيد القارصة، فالتفت أذرع الأب والأبناء تحتضن بعضها البعض، ومضوا بخطوات سريعة تتسابق مع الرياح العاصفة، وتلفح الجندى المنوط بحراسة الكنيسة بعبائته الصوفية، واستقبل تحية أول الخارجين من قداس الميلاد، مشاركاً إياه بهجة العيد بفرحة رغم السقيع. ثم خرجت جماعة من الشباب الأسمر الممتلئ بحب الحياة، وتبودلت الضحكات والتعليقات الصاخبة، ثم بدأت الجماعات الصغيرة تتوافد من داخل الكنيسة إلى عرض الطريق مهنئين بعضهم البعض بالعيد. ولم يلتفت أحد وسط الجلبة لهدير محرك سيارة تأتى مسرعة من شارع جانبى، وتتجه مباشرة نحو الكنيسة بينما تدلى من جانبيها جسدان بديا كشبحين لرجلين أمسكا بيد بسقف العربة بينما قبضتا يديهما الأخرتان برشاشان مالبثا أن انطلقا يمطران الجموع بوابل من الطلقات القاتلة، أودت بحياة ستة من الشبان المسيحيين وجندى الحراسة المسلم، وألقت معهم بعشرات من أجساد المصابين وسط بركة من دماء الأبرياء، إختلطت عندها الدماء المسيحية والمسلمة فى مشهد داكن كئيب، لم تشهد مثله بلدنا منذ أن أطلق جنود المستعمر الإنجليزي رصاصاته لقتل المتظاهرين المصريين مسلمين ومسيحيين فى ثورة 1919، أو منذ السبعينيات والثمانينيات عند قيام الجماعة الإسلامية وجماعات الجهاد والتكفير والهجرة بعمليات الاغتيال التى لم تكن تفرق بين المسيحيين والمسلمين بطول البلاد وعرضها والتى تبلورت باختلاط دماء الرئيس السادات بدماء الأنبا صموئيل فوق أرض المنصة عام 1981.

ثم بدأت ردود الفعل.

غضب وثورة أهالى الضحايا تأبى أن تمضى الأمور كما هى العادة فى مثل تلك الأحداث من شجب واستنكار وتعويضات لأهالى الضحايا على أحسن تقدير لتعود ريما لعادتها القديمة. وعود وعهود وصدود وآلام، وعود لاتصدق ولا تنصان.. أبى هؤلاء أن تجف دماء أبنائهم تحت دعوات رجال الدين بالتسامح وتذكر الوحدة الوطنية والنسيج الواحد، بينما تتعهد الجهات الأمنية بالقبض على الجناة وعرضهم على الجهات القانونية المعنية، والتى حكمت على عشرات الجناة من قبل بالبراءة عشرات المرات.

كلمات وكلمات تملأ صفحات الجرائد. شجب واستنكار وشجب واستنكار. ولكن والحق يقال بنبرة أعلى وبكثافة لم نعهدها من قبل. حتى برامج التليفزيون المصرى تنازلت واستقبلت ضيوفا مسيحيين للحديث حول تلك المأساة وتحليل أسبابها، واستمعت لهم، وحتى لمطالبتهم بتقديم الجناة لمحاكمة عسكرية بما إن قانون الطوارئ لايزال سارياً بحكم الدستور، وبما أن الموضوع يهدد الأمن القومى والوحدة الوطنية هى عماد الأمن القومى.

ولكن ومع قتامة الصورة لم يخل الأمر من ردود أفعال وتعليقات ضاحكة أضفت بسمات، من وراء القلب حقيقة، ولكنها بسمات أولا وآخرا ساهمت فى تخفيف درجة القتامة التى منينا بها. مثل تعليق سيادة المستشار بأن الجريمة هذه quot;عملية جنائية وليست طائفيةquot; وكأن الجناة كانوا قد اختاروا هؤلاء الشباب بالذات ليقتلوهم لأسباب جنائية بحتة، ولكن شاءت الصدفة أن يكونوا مسيحيين يصلون بالكنيسة ليلة عيد الميلاد. أو أن المتهم الأول من أصحاب السوابق العاطلين المجرمين وقد شوهد وهو يحوم حول الكنيسة المعنية وعدد من الكنائس الأخرى فى البلدة، ولكن لم يثر ذلك شكوك رجال الأمن، إذ ربما ظنوه يسعى للتعرف على الديانة المسيحية عن قرب لأنه كان يفكر فى التحول للمسيحية. أو إن زوجته كانت حاملا بتوأم قبل بضعة أيام، وأن حملها انتهى بعملية ولادة متعسرة، وأشرف على وضع توأمها طبيب مسيحى، ولكن حدث أن مات أحد التوأمين لعيوب خلقية، ومع ذلك فقد قرر صاحب السوابق الشقى الإنتقام من كل المسيحيين الذى كانوا يحتفلون بعيد الميلاد بالكنيسة!

ولكن ماذا بعد؟

هل نرضى بهذا الوضع المتردى الذى وصلت إليه البلاد؟

نعم، فحادث نجع حمادى جاء متزامناً مع مهزلة قافلة غزة التى أصرت أن تدخل غزة لتقدم المعونة لأهلها من داخل مصر، وكأن غزة محاصرة من مصر، أو أن مصر صارت الخصم أو العدو لشعب غزة، العدو الذى أصرت القافلة الدولية أن تحرجه على مرأى ومسمع من المجتمع الدولى، والذى أدلى رئيسها جورج جالاويى بتصريحات مشينة عن مصر آلمنى سماعها بالراديو بالأمس، وهكذا لم نسمع أى تعليق عاقل من الخارجية قبل أو أثناء الأزمة، وإنما شجب واستنكار بعدها واعلان بأن السيد جالاويى لم يعد مرحباً به فى مصر بعد الآن. ألم يسمع أحد عن اعتزام القافلة ورئيسها القدوم إلى مصر عبر سوريا والأردن متخطية العدو الحقيقى لأهل غزة المحاصرين! ثم ألم يسمع أحد أن جالاويى هذا كان أحد المتورطين فى فضيحة كوبونات صدام حسين النفطية؟ ثم هذه الحملة على الوزير بطرس غالى بسبب الضريبة العقارية وكأن الرجل أصدر قانونا بشأنها من بيتهم مثلاً، ولم يقم مجلس الشعب الموقر بوضع مشروع القانون الذى صوت له الأعضاء حتى تبلور أخيراً فى صورة قانون ملزم، سوف يدر بمليارات الجنيهات فى خزينة الدولة وليس خزينة سيادة الوزير. والغريب فعلاً أن أقوى المناهضين للقانون هم أعضاء مجلس الشعب، هؤلاء الذين من المفترض أن يكونوا قد صوت غالبيتهم لصالح القانون وإلا ما كان قد صدر من الأصل!

وهكذا نرى تردى الأوضاع فى شتى النواحى والجبهات تنذر بخراب المنظومة برمتها.

وفى المقابل؟

وعود بحلول قد لا تتحقق على الإطلاق كالتغلب على موجة الاحتقان الطائفى والكراهية غير المسبوقة التى تطل علينا من تعليقات القراء على شتى الأحداث أو المقالات التى تقترب من حقيقة الحوادث الطائفية مثل جريمة نجع حمادى.

كلمات لتهدئة الأحوال.

حكم بمنع مستر جالاويى من دخول مصر، وكأن ذلك له أى ثقل فى موقف مصر تجاه القضية الفلسطينية أو الحصار المفروض على شعب غزة بسبب رعونة حركة حماس أو التعنت الاسرائيلى أو تراجع الموقف الأمريكى مؤخراً.

كم تراكمت علينا الوعود والحِكم والكلمات التى لم تتحقق لسنين طويلة.

وماذا بعد؟

الإنتخابات التشريعية على الأبواب، وسيعقبها الإنتخابات الرئاسية.

فى البلاد الديموقراطية الحقيقية تصير هذه الإنتخابات الوسيلة الأكثر فاعلية للتغيير. لقلب المائدة وإعادة ترتيب البيت، لأن الأمر قد بلغ حداً من السوء ينذر بالخراب. ولكن هذا موضوع آخر.