ابني في الخامسة من عمره، وكان خلال العام الماضي، يذهب إلى روضة في منطقتنا جنوب ستوكهولم. والروضة لم يكن لديهم، بقناعتي، خبرات كافية تناسب صعوبات ابني.
بكل وضوح، لم أكن راضية. quot;راضيةquot; هي الكلمة التي تستخدم في ستوكهولم عند سؤال الأم عن روضة الولد.
التقيت المشرفات اللواتي يعملن في الروضة، عدة مرات، وناقشتهن طويلاً من أجل الاهتمام أكثر ببرنامج الولد، والتركيز على صعوباته، دون فائدة. كنت أتحدث السويدية كما يتحدث خواجة العربية في بلادنا، الحاء تخرج هاءاً والقاف كافاً، ويمكن للمرء أن يتخيل كم تبدو مضحكة تلك العربية المكسرة، وعلى الأغلب يُسفَّه رأي صاحبها، لأن لكنته وتأتأته تلهي عن رأيه، أو أن الرأي لا يُفهم تماماً. كانت المشرفات يصغين إلي كما يفعلن حين يصغين إلى ابني، كلامي لم يكن يُرفع من أرضه، أجنبية مازالت تتعثر باللغة، وتضجرنا. وأحالوني إلى مديرة الروضة، والتقيتها، كانت أقل استهتاراً بقولي من موظفاتها، التقيتها عدة مرات وناقشتها، وكانت تصغي باهتمام وتظهر نيتها بالاهتمام أكثر ببرنامج الولد، لكن لم يتغير شيء. كنت أطلب مشرفاً بخبرات كافية يتدبر صعوبات ابني، أسوة بغيره من بعض الأولاد السويديين، وليس كلهم، والذين يحظون بمشرفين ذوي خبرات كبيرة ولسنين طويلة.
لم أنل مطلبي، رغم إلحاحي. كنت حذرة بلغة خطابي، ليس لأن لغتي السويدية ليست كافية وحسب، وإنما لأن ابني بين أيديهم، وكنت قلقة إن صعّدت لغة الخطاب أن ينعكس سلباً على وضع الولد، وحاجتي للروضة شديدة. ولكن وبعد عدة محاولات، نفذ صبري وصعّدت لغة خطابي، فاستُفزت هي وموظفاتها وقلن لي بشكل مباشر، إنه لا يجوز أن أتدخل في عملهم، وإنه علي أن أترك ابني وأمضي واثقة. واثقة؟ كيف تُطلب الثقة؟ أعرف أن الثقة تُمنح! وأحالوني إلى المسؤولة في البلدية، والتقتني وأصغت إلي، وكأنها كانت على خبرة أمضى بالحياة، وبالتالي لم تتوقف عند تعثراتي اللغوية. أبدت اهتماماً كبيراً، وطرحت عدة حلول، ووافقت معها على أن نجرب تطبيق تلك الحلول التي اقترحتها، قالت، تخضع المشرفات لدورة تأهيلية ويجري كونترول أسبوعي على أن الارشادات التي تعلمنها، تطبق بشكل حقيقي.
لايتسع المقال هنا لذكر تفاصيل الأمر الذي استغرق أكثر من عام، طاقة وجهداً ووقتاً. وافقتُ معها بإيجابية وأخذت أراقب الوضع بهدوء، بضع شهور، ولكن الأمر لم يكن تماماً كما وعدوا، كان التطبيق شكلياً، تماماً كما يحدث في بقاع كثيرة من العالم. لم أستطع السكوت وكانت لغتي السويدية قد بدأت تصعد من أسفل الرقبة إلى الرأس، و صارت تكفي لتصل الأفكار تقريباً. اتصلت بها مجدداً وشرحت لها كيف أن التطبيق لم يكن تماماً كما وعدوا، حاولت أن تجيب بطرق مختلفة وتبرر أن الأمر لا يمكن أن يطبق تماماً، وأن صعوبات الأولاد متنوعة وبأن..، وكنت أقتنع أحياناً بما كانت تحاول شرحه بتأن وصبر، ولكن لاتكف عيني أن تنظر إلى ذاك الولد الذي يدعى فيكتور، وينال أفضل الخبرات، فما ألبث أن أُستثار من جديد وأعيد الاتصال بها، حتى استُفزت هي الأخرى وأحالتني إلى المسؤولة الأعلى، وهي أعلى مسؤولة في البلدية، مسؤولة عن كل روضات المنطقة الجنوبية. كانت امرأة في أواخر الخمسين، يبدو من تجاعيد وجهها أنها مخضرمة في السياسة والعمل الطويل. مدت لي يدها وقالت، مرحبا. ونظرت إلي نظرة طويلة أو لنقل نظرة ضيق، كان لديها فكرة مسبقة بأنني أمّ لاتكف عن النق، لكني لم أكترث كثيراً، أو أني كنت منغمسة كلياً بفكرتي، كنت مؤمنة كوسواس، بأني على حق ولدي القرائن الكافية، وفردتّ كل مالدي على الطاولة دفعة واحدة. استُفزت من أقوالي شديدة المباشرة وربما اعتبرتها وقاحة، وأمرت مرة واحدة، وبقول واحد، بأن يستمر الوضع على ماهو عليه، يذهب ابني إلى تلك الروضة بنفس الحجم من المساعدات وتحت أيد ليست خبيرة كما كان تماماً خلال العام. ثابرتُ وأعدتُ عليهم قولي مرة ثانية، نظرت إلي طويلاً، ثم أشارت إشارة واحدة للموظفة التي ستصيغ القرار، بأن الوضع يستمر على ماهو عليه، كلام نهائي. وقامت لتترك الاجتماع، وقبل أن تنسحب قلت لهم، لن أرسل ابني إلى الروضة إن لم ينل كغيره من بعض الأولاد، وكنت أشير إلى فيكتور. قالت: وماذا تفعلين؟ أجبتها: سأحتفظ به في البيت.
وأبقيت ابني في البيت شهرين كاملين، تعب شديد ووضع أشبه بالسجن إن لم يكن أكثر قسوة.
لم أقم بالاتصال بأي جهة صحفية أو تفتيشية، كنت أنتظر الحل من صاحبة الأمر نفسها.
خلال هذين الشهرين، أرسلوا طلباً من البلدية، يريدون أن أقابلهم. أجبتهم عبر الإيميل: للأسف ليس لدي من يجلس مع الولد، ولايمكنني أن أحضره معي إلى الاجتماع و أمكث وقتاً طويلاً، أو نتحدث بهدوء بوجوده. أجابتني المسؤولة بلطف: يمكن أن ترسليه في هذا الوقت إلى روضته الحالية مع مشرفه الحالي. رفضتُ أن أكسر الاعتصام، وقلت يمكن لنا أن نتواصل على الهاتف أو الايميل.
وحصلتُ على كل ما كنت أتمناه لابني، والآن أرسله إلى مدرسته بارتياح.
لمن يحلو له التسبيح بحمد أوروبا، أقول، لم أقل شكراً للأشخاص الذين سمحوا في الآخر بمرور المساعدة المناسبة لابني، وإنما شكرت القانون الذي لو لم أُجِد استخدامه، أظن، ما نُفّذ بشكل عادل. وعلى قناعة تامة بأنني باشتغالي عاماً كاملاً بهذا الأمر، ساهمت ولو بحبة صغيرة في إعلاء القانون.
- آخر تحديث :
التعليقات