وليعذرني أستاذنا (الطيب الصالح) فلم تعد الهجرة للشمال فقط، فقد أصبحت فوضوية عبثية متداخلة لا نمطية.
ولو نظرنا لأسباب هجرة البشر لوجدناها تتشابه كثيراً مع مسببات هجرة المخلوقات الأخرى الأقل شأنا.
فهو عمل غريزي يقوم به المخلوق بحثاً عن ظروف معيشية وعملية ونفسية أفضل، وأقل تهديداً بالمرض والجوع أو العطش أو بالتعري، أو بتقلبات المناخ، والكوارث الطبيعية والصناعية المحتملة.


فالمفكر الذي يعاني من اضطهاد في بلده لا يجد مناصاً من البحث عن وسط فكري أكثر ليونة، ومنبر حر لبث أفكاره والبوح بمكنون نفسه لم يتحصل عليه في موطنه الأصلي. والعالِم المتبصر يهربُ لأرض تُقدر علمه ومخترعاته. والحرفي الماهر يُهاجر إلى حيث يتبلور وينتج إبداعه. والجائع يهرب إلى حيث لا يعود يحمل هم لقمة مريرة لا يجدها. والخائف من إرهاب المجتمع وتخلفه يهرب إلى مجتمعات سماحة يجد بينها حريته دون ضغوط. والسياسي يبحث عن تمازج ألوان الأطياف السياسية، التي تحترم بعضها الآخر دون تقزيم. والتاجر يبحث عن أسواق تحفظ له أمواله وتنميها.


وفي بلداننا العربية والمسلمة نجد أغلب العوامل من سؤ الطقس، والتصحر، والتلوث البيئي، وقلة موارد الغذاء، والقهر النفسي السياسي، والضغوط الاجتماعية، وانتهاك للحقوق الإنسانية، وعنصرية التعيين على المناصب، والإرهاب الفكري والديني الأحادي، وتخلف وجهل ومرض، وتهميش للعلوم والصناعات، مما يدعو الشباب المكبوت للهروب ما استطاعوا إلى ذلك وسيلة.


وبعض تلك الهجرات حتى وإن لم تكن جسدية، فإنها تحدث بطرق معنوية من خلال تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج تحسباً لأي طارئ قد يحدث لأوطانهم المهددة بالحروب والثورات والانقسامات والتشرذم، وأصبح الحصول على جنسيات بديلة أمر يدعو للثقة والتفاخر.
ولقد كانت الأمم المختلفة تُعرف في الماضي بتميزها بصفات جوهرية وشكلية معينة تميزها عن الشعوب الأخرى. وكل جماعة تتفرد بنفس الصفات في الغالب، وتنتهج نفس المعتقدات و العادات والتقاليد. بتميز لا يقبل الدخيل بسهولة.


أما في عصرنا، عصر الهجرات المتعددة المتسارعة المتعاكسة، فقد اختلط الحابل بالنابل فلم تعد تدري من هو أبن الوطن الأصلي، ومن هو الدخيل!.
وفي المدن المعاصرة تجد خليطاً مدهشاً من الأعراق والأجناس يصعب مزجهم. حيث أنهم يعيدون التجمع في أحياء ومساكن متقاربة، ويحيون لغاتهم، وأزيائهم، ويتجمعون لأداء شعائرهم الدينية، ويحتفلون كلٌ على طريقته.


فتجد حي للشرقيين، وأخر للغربيين، وحي للسود، والهنود، والصينيين والعرب وغيرهم. و تنقسم الأحياء أكثر وأكثر بالبلد البديل. فتعم نظرية الفوضى، وتزداد الفوارق وتتضح حتى يصبح الوضع مربكاً لا قانون يحكمه.
كلهم هاجروا من ديارهم بحثاً عن أهداف واضحة. ولكنهم وبعد أن نالوا ما يريدونه حنوا مجدداً لبعض قديمهم، وتجمعوا حول أقرانهم وإستجروا ماضيهم، وصاروا مسخاً لا هو بالقديم الأصلي، ولا بالجديد المتطور.


وأغلب المهاجرين يكونون ضرراً على أنفسهم وعلى من حولهم وعلى البلد الذي يستضيفهم، إذ أنهم لا يريدون أن يذوبوا في المجتمع الجديد، ولا أن يتبعوا تعاليمه، ولا يرغبون أيضاً في موروثهم السابق كما هو!.

ومعظم الحواضر العالمية وإن كانت في بداياتها منفتحة على الهجرة بدواعي الحرية، إنما لا شك أنها الآن تعاني من عدم تجانس المجتمعات، وعدم القدرة على السيطرة وتطبيق النظام. بل إنها أصبحت مهددة بعدم التوحد، واحتمالية التفكك، وإنحلال معاني الوطنية والمواطنة.


الهجرة داء عضال يصيب كيان الحضارات العظمى ويؤدي بها إلى التردي والزوال.
ومعظم الحضارات العالمية حاليا مهددة بهذا التفكك، والسقوط حاصل حتى وإن بعُد أوانه.

ولا تعتبر المدن العربية بمعزل عن هذا الداء، والتحول الشاذ في التركيبة السكانية. وأنظر حولك في مدينتك، من هم جيرانك؟ ومن هم أصحاب الحرف؟. ومن هم المخربون لطبيعة مجتمعك؟. ومن هم المهددون لأمن ورخاء البلد؟. ومن هم المفسدون لكل جميل من حولك؟. أنه وضع مخيف لو وعينا ذلك. فبعض المدن إختلطت حتى لا تكاد تعرف من هم أهلها الأصليين!. وسيأتي يوماً على مدننا نجد فيه أنفسنا غرباء نبحث عن محمية إجتماعية طبيعية مشابهة لنا. وقد يشتد بنا الحال حتى نُعزمُ على الرحيل المر، والهجرة إلى حيث نجد مرامنا وسعادتنا.


فنحن نعيش فوق كرة أرضية قلقة متقلبة سريعة الإنقسام، لا ثبات لغليان جوفها ولا لسطحها.