أصبحت توصيات مفكرينا كتوصيات الوالد قديماً، تأتي قبل أوانها، ولاتنفع إلا حين الذكرى.
أرسل لي أحد الأصدقاء: أرفق حواراً هاماً بين مفكرين، حازم صاغية وياسين الحاج صالح، في ملحق نوافذ لجريدة المستقبل بتاريخ 28 فبراير عن الانسدادات العميقة والممانعة من نشوء دول ديموقراطية مرموقة في المنطقة. كنت قد قرأت الحوار سابقاً عن رسالة الصديق وأصبت بإحباط، وأعدت القراءة بعد رسالة الصديق، وتأمينه على رؤية المفكرَين بانسداد عميق وممانع من نشوء دول ديموقراطية مرموقة في منطقتنا.. وأصبت بالإحباط مرة ثانية.

يوجد اختصاص، فوق طبيب، وهو اختصاص بعد الاختصاص، يستشار في آخر مرحلة من التشخيص، ليقول كلمة واحدة: لا أمل، أو جملة واحدة: لا بد من العملية.. حين قرأت الحوار شعرت أنني أمام هذا القاضي الأخير العارف، ما ثبط العزيمة..

رغم أهمية الحوار ومهارة المفكرَين، ورغم طربي مع البراعة والدقة في لغة الطرح، إلا أني لم أخرج من القراءة إلا بانتكاس وبشيء أقرب إلى التثبيط منه إلى الفعل، ولذلك أقول إنه لم يكن نافعاً، بدا تنافساً إيجابياً وتبار على اللغة والتعبير وقوة المعاني، بدا فسحة مرفِّهة للمفكرَين، بدا حواراً مخضرماً، كما يحدث حين يعلم الجمهور أن فنانًين قديرين سيؤديان عملاً مشتركاً وأن المثير بالأمر هو فقط التقاء الاثنين.

يبدو أن توقع السيئ سهلاً على كتابنا، وأن العقلانية، التي تحترم طبعاً لأنها تساعد على الفهم، لاتعين، لأنها تجرح ولا تداوي، صحيح أن كلمة الاحتمال ترد بكثرة في الحوار، ولكن الرصانة على الأغلب كانت شديدة الأبوة. والأحكام قاطعة، كأن التمني أو التحذير أو الحلم، مفردات غير واردة في ذهن مفكرينا، أو أنها كلمات معيبة لمقال المفكر أو إنه اذا استخدمها سوف تخفف من أهمية قوله وعمقه وعقلانيته وهذه الأخيرة بين هلالين.

من جانب آخر.. كثير من المفكرين الذين يحملون خلاصة شديدة الأهمية يفتقدون إلى لغة التخاطب القريبة من القراء، يفتقدون إلى تلك اللغة التي تجلب قارئاً كان عازفاً عن القراءة، ولا أدري حقاً كيف لايعيبون هذا على لغتهم. وقد قال مرة أحد الشعراء quot;الكبارquot;، فيما معناه، إنه يبحث عن قارئ وليس عن جمهور وإن مايجذب الجمهور أمران، الغناء أو مداعبة أيديولوجيتهم.. هذا الترفع والذي أظن أنه بقناعة مفكرينا نبل ورقي، أجده عيباً في لغة الخطاب، لأنه لا فائدة من الكتاب من دون قراء ومن دون فعل حقيقي وتحريك حقيقي. بظني أن مايجذب الجمهور هي اللغة الآتية من حرص حار، موهبة على الشاعر الحقيقي أن يتحلى بها، والشاعر أو المفكر الذي لم تخلق لديه هذه الموهبة، عليه أن يتدارس أمرها كي يتدبرها لأنه لامعنى لكل ما يفعل إن لم يجذب ويدفع ويحرك. هذا الترفع عن الجمهور تسويغ سهل لمن لا يستطيع التخاطب مع الأكثرية. وذلك لأن ذهنيتنا اعتادت على أن خطاب الأكثرية يعني خطاب الغوغاء يعني خطاب السياسي ذي المصلحة البحتة، أو خطاب الإمام في الجامع..

يقولون إن على القارئ أن يصعد إلى فكر المفكر، وقراؤنا لايصعدون وليس لديهم فسحة لذلك، إذن على الكاتب أن يمتلك موهبة لشد القارئ وجذبه أو هزه..
الكثير من مفكرينا وكتابنا، يزاول الكتابة مهنة يومية أو هواية باردة، ولكن القليل من يسدد جيداً قبل أن يطلق مقاله، تأتي أينما أتت. قليل من يحبس أنفاسه ويشحن كلمته قبل إرسالها بعاطفة ولغة حارة. نعم، بالطبع إن كتابة مقال يومي مشحون، قد يصيب صاحبه بجلطة دماغية، لكن هذا ما يمكن أن يخلق حركة، باعتقادي. أما الذي يحدث الآن فهو أن الكتّاب أصحاب الفكر يخاطبون بعضهم على الأغلب، وحين يكتبون، أظن، يفكرون ببعضهم وبقرائهم القلائل.

ذلك الإخلاص العميق للقارئ لم نعد نجده بين شعرائنا ومفكرينا، تلك الجمل التي تساهم حقاً بغسل فكرة سلبية أو التخفيف من نقمة أو نزع نزعة شريرة، ليست موجودة..
تحتاج الكتابة إلى شحنة من الألم والتمني، وإن أضحك هذا الكلام قارءه، لكنه يجلب قارئاً ويشد مستمعاً، أن تصل لغة الخطاب وتصل بحب ورجاء وتقرب هو النافع، إذ مايعيب في توصيات الأم؟ توصيات الأم حارة وقريبة وبسيطة وتطاع.. أجد أن توصيات مفكرينا كتوصيات الأب قديماً، تأتي قبل أوانها، ولا تنفع إلا حين الذكرى.

التسديد يحتاج عملية تحليل مستمر، تحديد الصعوبات.. ماذا بهما كلمتي، أدعو الله، من منا لم يكبر وأمه على سجادة الصلاة أو أمام صليبها وشمعتها؟ ماذا يعيبنا إذا رددنا كلمات تداعب ذاكرة القارئ أو تحرضها؟ إن كان الهدف نبيلاً، التأثير في ذهن ونفس القارئ. بما أنه يوجد خطاب قوي يستطيع أن يأسر الشباب ويدفعهم وهم في زهرة شبابهم للموت في سبيل ربهم، فلنتفضل ونقدم خطاباً أمضى.. ولكن هذا صعب على الكاتب، والسبب هو شخص الكاتب بحد ذاته، فهو لا يريد أن يصنع من نفسه موضوعاً، إنه ذات.. والاعتزاز كل الاعتزاز بالعقلانية..


أهو حقاً تعالي المفكر أم أنه خجله وتواضعه؟ لا أدري، لكن النتيحة التي نعرفها جميعاً أن عدد القراء ليس أكثر من ستة، سبعة قراء..

---
كاتبة سورية تقيم في ستوكهولم