ثمة حقيقة تاريخية و سياسية مؤكدة تتمثل في كون إعتبار الرئيس العراقي السابق والمخلوع أمريكيا صدام حسين ليس مجرد رئيس سابق لبلد عربي مهم و ستراتيجي فقط ، بل أنه كان أحد اللاعبين الكبار في تشكيل الصورة التاريخية العامة للشرق الأوسط الحديث وكان بالتالي أحد المسؤولين عن حالة التكسيح العامة التي أحاقت بالعالم العربي كما أن ظهوره على مسرح الأحداث و سقوطه ونظامه السينمائي على الطريقة الهوليوودية كان من الأمور المثيرة التي لا تخلو من فانتازيا مركزة ليست بغريبة أبدا عن أحداث الشرق الأوسط و تاريخه الحافل بالأساطير!! وروايات ألف ليلة وليلة ، لقد كتبت عشرات الآلاف من المقالات و مئات الكتب بمختلف لغات العالم حول ذلك الرجل الذي طبع ببصماته القاسية على أحداث المنطقة خلال العقود الثلاث المنصرمة ، وقيل فيه مدحا وذما مالم يقل في أحد من السياسيين العرب ، وحتى الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر لم يثر من الجدل مثلما ثار حول صدام حسين وفيه!، صدام حسين بكل وقائعه و أيامه و عهده كان ظاهرة من ظواهر الميتافيزيقيا في السياسة العربية ، كما كان شاغلا للدنيا و مالئا للناس وساهم و نظامه الذي كان في صياغة وحياكة تاريخ مرحلة مهمة وحاسمة وحساسة من عمر الشرق الأوسط الحديث ضمت بين دفتيها أحداث هي الغاية في السرية و الأعاجيب و أحتوت من الملفات السرية و الخاصة مايشيب لهوله الولدان! ، ولكنه إنتهى بسرعة خاطفة وحرقت جميع سجلاته وأوراقه وملفاته!! ، وخيم التعتيم الشامل في عصر المعلوماتية المفترض على حلقات مفصلية ومهمة من الأحداث الخطيرة التي ساهم بصنعها بل و أنفرد بها ، لقد كانت نهاية صدام حسين صاخبة تماما كحياته و كأسلوب نظام حكمه و كظهوره المفاجيء و المدهش على مسرح الأحداث الدولية بطريقة غامضة تتلائم ظروفها و تطوراتها و إشكالياتها مع مشروع صناعة النجوم في السينما الأمريكية!، حتى في نهايته إنتهى صدام حسين كما أنتهى فجأة وهج العديد من نجوم تلك السينما قتلا أو إنتحارا أو غيابا بطريقة مفاجئة ، لقد وصف الكاتب المصري الناصري محمد حسنين هيكل صدام حسين ذات مرة على صفحات مجلة الدستور اللبنانية أواخر السبعينيات من القرن الماضي بقوله بالحرف و النص من أنه ( قيادة شابة من نوع جديد )!! ، ولكن هيكل وهو أحد صناع النجوم و ملمع القادة المهزومين أيضا لم يقل أو يفصل شيئا عن طبيعة تلك القيادة الشابة التي عناها و التي كانت على عداء شديد مع جمال عبد الناصر في أخريات أيامه رغم أن صدام حسين قد مر في شبابه على ذاكرة و شبابيك مخابرات نظام عبد الناصر بإعتباره لاجئا سياسيا في أيام الوحدة المندرسة من 1959 وحتى نهاية نظام عبد الكريم قاسم في العراق في فبراير 1963 ، وحيث عاش صدام في مصر الناصرية المتوهجة بشعارات الثورة و الإنقلاب و الإشتراكية والوحدة العربية وقتذاك ولم يعجب أبدا بذلك النظام رغم تشابه طروحاته والطروحات البعثية المعروفة ، بل أن صداما لم يثر يومها إهتمام المخابرات المصرية التي كانت مهتمة بأسماء ورموز سياسية عراقية أخرى تهاوت أسمائها في سلة مهملات التاريخ! وكتب صدام بنفسه نهاياتها العنيفة كما حصل لمؤسس البعث في العراق فؤاد الركابي الذي إنتهى قتيلا في عام 1970 في معتقله على يد مجرم محترف مرسل من القيادة البعثية الحاكمة!، وقد سقط صدام حسين وخرج من التاريخ بكل أحداثه المهولة دون أن يترك كعادة كل حكام العراق السابقين أية مذكرات أو معلومات لخفايا و مصائب سابقة ، فبإستثناء الملك العراقي الراحل فيصل بن الحسين الذي ترك مجموعة من الآراء و الإنطباعات حول فترة حكمه قبل رحيله في عام 1933 ، فإن الحكام الذين أعقبوه لم تتسن لهم أبدا فرصة كتابة مذكرات أو إنطباعات ، فالملك غازي الأول ( 1933/1939 ) قتل في حادث السيارة الغامض المعروف دون أن يترك شيئا سوى اللوعة في قلوب محبيه ، و الوصي على العرش المرحوم الأمير عبد الإله بن علي قتل وسحل في بغداد على يد رعاع وهمج إنقلاب 14 تموز/يوليو 1958 دون أن يترك شيئا؟ أما أبرز رجال العراق الحديث وهو الشهيد المرحوم نوري باشا السعيد فقد قطعت جثته في شوارع بغداد دون أن يترك شيئا مكتوبا سوى سلسلة محاضراته العسكرية و اللوجستية حول الشؤون العسكرية للثورة العربية الكبرى عام 1916 رغم أنه من كبار صانعي الشرق الأوسط الحديث و ليس العراق فقط؟ أما الملك فيصل الثاني الذي أستشهد بالغدر المعروف في مجزرة قصر الرحاب فلم يترك شيئا مكتوبا أيضا ، واللواء عبد الكريم قاسم الذي إستلم السلطة في 1958 وحفل عهده برياح و تيارات الحرب الباردة و الصراع بين القومية العربية الناصرية و البعثية و التيارات اليسارية فقد قتل و أعدم على يد البعثيين و القوميين الناصريين بعد محاكمة سريعة إستمرت لدقائق فقط في 9 فبراير/شباط 1963
ورحل دون أن يترك مذكرات و لا حتى قبر معروف!! ، أما الرئيس عبد السلام عارف فقد إحترق أو أحرق في طائرته العمودية في شمال البصرة في ربيع 1966 دون أن يترك مذكرات مكتوبة أيضا؟ أما خليفته و شقيقه الرئيس عبد الرحمن عارف الذي حكم العراق في زمن صعب و كان من أهدأ من حكم العراق وكان مسالما للغاية و تعرض للغدر من بطانته وحمايته من ضباط عشيرته أنفسهم فقد خلع عن السلطة في إنقلاب قصر أبيض قاده البعثيون عام 1968 و أرسلوه للخارج ليعود للعراق و يعيش حتى ما بعد الإحتلال الأمريكي عام 2003 ويموت في العاصمة الأردنية عمان دون أن يترك مذكرات مكتوبة سوى نتفا من التصريحات و المقابلات التلفزيونية!! ، فذاكرة الحكم في العراق ضعيفة للغاية بل معدومة أيضا؟ ، أما رئيس الحقبة الأولى من نظام البعث الثاني وهو أحمد حسن البكر فقد أبعده نائبه صدام في إنقلاب قصر ثاني في صيف 1979 كان ثمنه قطف رؤوس العديد من القياديين البعثيين فقد رحل بصمت و بطريقة مريبة ولم يترك شيئا للتاريخ سوى تمثال!! رغم أنه تاريخيا يعتبر خزانة لأسرار ما حدث في العراق في النصف الثاني من القرن العشرين وهو المسؤول ألأول عن مجيء صدام للسلطة وصعوده على جثث كبار قادة البعث العراقي! وهكذا هو حال الحكم في العراق فهو مقبرة كبيرة الداخل فيه مفقود و الخارج منه مولود ، وصدام حسين الذي تميزت أيامه بتوافقات دولية و إقليمية سرية وخطيرة و الذي إنخرط في مشاريع إقليمية ودولية سرية ظلت غامضة و عصية على الإختراق لم يكن إستثناءا ، فهو قد حكم بالحديد و النار و أجتهد لبناء دولة قمعية على النمط النازي و الستاليني المعروف في عصر متغير لا يسمح أو يحترم لمثل تلك النماذج الخارجة عن السياق التاريخي أن تستمر أو تدوم ، ولكنه مع ذلك إستمر في السلطة المباشرة لأكثر من 23 عاما و نيف من الشهور حفلت بأحداث خطيرة و كارثية و مرعبة غيرت التوازن الدولي كما حدث في إحتلال الكويت عام 1990 وفي الحرب مع إيران عام 1980 وفي محاولة بناء دولة قمعية شمولية و بوسائل عصرية وهي محاولات كانت فاشلة منذ البداية لمن يقرأ التاريخ و يفهم الستراتيجية و يستوعب الوقائع و يستخلص العبر ، لقد كان عهد صدام حسين من أشد عهود العراق سخونة ودموية و تحولا بأحداثه و تقلباته السريعة و المفاجئة و بعنفه و دمويته المفرطة و بأحداثه السريعة و المتلاحقة و بأجنداته السرية الغامضة التي تحول العدو لصديق و الصديق لعدو في لحظات مزاج إنقلابية غير عادية!! كل تلك المرحلة لم يكتب صدام حسين أحداثها أو يحيط أحدا بأسرارها؟ بل تلاشت كما تلاشى العراق الحر الناهض المتقدم الموحد ! ، لقد أثار مؤخرا أحد أعضاء فريق محامي الدفاع عن صدام حسين في المحكمة الجنائية العراقية وهو المحامي خليل الدليمي ضجة هوائية حول كتاب أصدره مؤخرا يتضمن ما قال عنه بأنها مذكرات صدام حسين في السجن وهو بعنوان ( هذا ماحدث..)؟و مبعث الضجة هو شكوك البعض بمصداقية المعلومات التي تضمنها الكتاب حول الأيام الأخيرة لصدام حسين في السجن ألأمريكي قبل تسليمه للحكومة العراقية التي نفذت فيه حكم الإعدام شنقا في آخر يوم من أيام عام 2006؟ لتطوى بذلك صفحات غامضة من عمر العراق و الشرق الأوسط ، لقد حوكم صدام و أعدم بسبب جرائم قتل جنائية محدودة حدثت في مدينة الدجيل عام 1982 بعد تعرضه لمحاولة إغتيال؟ فيما صمتت المحكمة عن كم المعلومات الهائل الذي لم تعرف حقائقه أبدا حول أمور و أحوال و أسرار العراق و المنطقة ، لقد أكلت هزلية السياسة العراقية المتعبة و المنهكة كل دراما التاريخ العاصفة و المدوية و الدموية؟ و تم إسكات مصدر معلوماتي مهم للغاية لأنه لا يراد لكثير من ألأمور و الغوامض أن تظهر حقيقتها أبدا ، فكان كتاب المحامي الدليمي محاولة تهويمية فاشلة لمحامي دفاع فاشل ركز على مصائب الحاضر و تناسى تماما إرهاصات و تداعيات الماضي القريب جدا و التي كانت السبب الرئيسي في مآسي الحاضر ؟ فهل هنالك مذكرات حقيقية لصدام حسين تغطي فترة حكمه و ما قبلها و صعوده الإنقلابي الذي لوى من أجله أعناق الرجال في العراق ليتسيد الموقف لعقود طويلة بعد أن طوى الحزب و الجيش و الشعب العراقي تحت أبطيه قبل أن يقرر الأمريكان إنهاء اللعبة بأيديهم لا بأيادي غيرهم..؟ هل سيعرف الرأي العام العراقي أو العربي أو الدولي أسرار الأحداث و الفواجع الكبرى التي حدثت في العراق منذ نهاية الخمسينيات من القرن الماضي وحتى اليوم ؟ أم أن لعبة الأمم القذرة لا تسمح بذلك ، بل أن كل ما سمحت به هو صدور كتاب تافه لا يضيف للتاريخ شيئا بل أنه يعبرعن فجيعة الفشل العراقي الذي إمتد حتى لدرجة الفشل في كتابة التاريخ المعاش ؟
الشيء المؤكد إن المذكرات الحقيقية لن تظهر أبدا لسبب بسيط وهو أنه يراد للعراق أن يكون بلا ذاكرة.. وهو المطلوب....؟
ففي العراق الطائفي الراهن الواقف على أبواب التقسيم لا أحد يهتم بالتاريخ و لا أحد يقرأ أو يكتب أو حتى يتعظ..؟ و تلك هي المأساة...
التعليقات