في مقالتنا السابقة وتحت عنوان مذابح الآشوريين متى تنصف الضحية، تطرقنا لفعل القتل والإبادة التي تعرض لها أبناء شعبنا من كل طوائفه بالإضافة إلى الإغريق والأرمن، ونحن إذ نقدر بحدوث مذابح أخرى، إلا أنه بلا شك ليس مطلوبا منا أن نلم وأن نكتب عن كل ما حدث من المذابح على وجه الكرة الأرضية، وهذا لا يعني عدم تعاطفنا مع ضحايا تلك المذابح أي كان سبب حدوثها سواء كان دينيا أو قوميا. ولكن الضحية واي ضحية تطلب من الجاني الإنصاف ولعل أقل قدر من هذا الإنصاف هو، الاعتذار والإقرار بما فعلت يداه والاعتذار أقل ما يجب أن يقدم وليس التبرير، فالتبرير أكثر إيلاما من الحدث نفسه أحيانا. فالتبرير يعطي الضحية انطباع عام بان الحدث يمكن أن يتكرر مادامت الذرائع موجودة، فلا يمكن بأي حال من الأحوال إعطاء تبريرا للمقابر الجماعية والتي وجدت في العراق، أو لا يمكن بأي حال من الأحوال تبرير الأنفال وحلبجة، فمجرد تبرير هذه الأحداث يعني أن الجاني يريد منح الانطباع أنه لو توفرت مرة أخرى الظروف الملائمة، لأعاد القيام بفعلته دون وازع من الضمير، لا بل سيعتبر الأمر قانوني وأخلاقي ما دام يمنح التبرير لذلك.
لا يمكن إرضاء الجميع، ورضا الجميع غاية لا ترتجي كما قيل، ولكن الحياة والرغبة في بناء مستقبل أفضل لجميع سكان المنطقة، منطقة الشرق الأوسط من إيران وتركيا وعراق وسوريا ولبنان وغيرها، يعني الانطلاق من موقف بناء وليس موقف هدام لا يهتم بالنتائج التي يمكن أن تاتي بها أقواله. وعليه فإنني مصدوم حقا من ردود بعض الإخوة من القراء وخصوصا خروجهم عن جوهر المقال، والتمسك بالقشور، أو تحميل الأمور ما لا تحتمل، والمهم أن البعض ولغايات الحقد علق بما يجرح المقابل، فربط التفجير الإرهابي الواقع في يوم الأحد المصادف 2 أيار الحالي والذي استهدف طلبة مدينة بغديدا المتوجهين إلى جامعة الموصل بالكورد هو عملية غير أخلاقية لأنه يستبق كل التحقيقات وحتى الانطباع الأولى عن ما حدث وما سبق حدوثه. كما أن ادعاء البعض بمقتل مجموعة ملكو، وليس لهذا الاسم إي مكانة في التاريخ وخصوصا إبان مرحلة بكر صدقي، فبكر صدقي لم يتمكن من مجابهة مقاتلين ببنادق بسيطة، انتقم من نساء وأطفال وشيوخ سميل وما يحيط بها.
وعليه فإن المقال المنشور والذي يطالب بإحقاق الضحايا، لم يؤخذ بهذه الصورة، بل تم أخذه من ناحية محاولة تبرئة طرف شارك في فعل الذبح، بإرادته أم بأوامر، ولا يمكن لوم امرأة آشورية أمية قبل 95 سنة وهي ترى جارها من نفس القرية أو من القرى المجاورة ينقلب إلى قاتل لها ولأولادها أو إخوتها أو والديها، فليس مطلوبا منها التحليل وربط النتائج بمسببات اقتصادية أو بالحرب الكونية أو بالصراع الفرنسي الألماني، وهذا كله ما كانت ستدركه المرأة التي نقلت الحدث بصورته إلى أبناءها وأحفادها لا بل دخل مسامات جسدها واختلط بحليبها الذي أرضعته لأبنائها، لهول بشاعته.
لم يعد هناك أمر غير مسيس، فعندما يتم لصق تسمية الأقلية بشعب ويتم احتساب حقوقه على أساس عدده من قبل الأكثريات، هنا يتم تسيس عملية الذبح والقتل والإبادة بأبشع صورها، وهو صوت يقول لك، أننا بعد أن نفذنا فيكم سيف القتل وحولناكم إلى أقليات عددية، فلا يحق لكم المطالبة بالمساواة، أو بحقوق تتساوون فيها مع الأكثرية. أو أليس هذا تسيس فاضح وفج لعملية الذبح؟
أن أحد أسس بناء المستقبل، واحد الثغرات التي يمكن أن تهدد المستقبل هو التاريخ أن تم فتحه بشكل ينكأ الجروح، وليس كدراسة يمكن الاستفادة منها، لكي لا تتكرر الأحداث. إن الآشوريين لم يكونوا الوحيدين في معاناتهم، بل إن معاناة الضحية انطبق على الأرمن والكورد أيضا، ولكن علينا جميعا أن نقتنع بان ما حدث في التاريخ كان جريمة كبرى يجب ألا لا تتكرر، ويجب أن نفتح الأعين لمخاطره ما حدث: ليس من أحد يطالب فرد من أفراد عشيرة كوردية شارك جده أو أحدا كان جده ضمن الخيالة الحميدية بتقديم التعويض عن ما اقترف يد جده، ولكن المطلوب هو أن نعي أن هذا الفعل يجب أن يرتقي إلى مستوى المحرمات لدى الكل، بحيث أنه لا يخضع لتنفيذ أوامر المافوق من الآن وصاعدا، بل يخضع للضمير ومحاسبته. وعلى هذا الأساس يبرر بعض القادة المشاركين في الأنفال فعلتهم بأنهم كانوا مأمورين وليسوا مخيرين في تنفيذ ما فعلوه.
والأمر المهم والأساس الذي نبحث عنه هو أن التسييس والانتفاع بنتائج المذابح لصالح الأكثريات، يعني بحق جرم إضافي بحق من اقترفت بحقهم المذابح، والانكي حرمان أبناء الضحايا من أي حق أو من المساواة بحجة القلة العددية.
إن زرع قيم التسامح، لن يكون بسكوت الضحية عن ما اقترفته يد الجاني، أي كان هذا الجاني، بل بالاعتراف وبإظهار الحقائق وإدانة الأفعال الغير الإنسانية مثل القتل والذبح والإبادة، وإدخال كل ذلك كعملية مدانة في مناهج التربية والتعليم. لكي نغرس في الأجيال القادمة معنى المساواة، وان لا أحد فوق القانون. والتسامح المطلوب من الضحية يقابله الاعتراف من قبل من الجاني، ويقابله عدم إهانة الضحية كل يوم باعتبارها أقلية غير متساوية مع الآخر. إذا لكي نتسامح ونتعايش ونعمل لأجل الكل علينا أن نعترف علنا باخطأنا وبخطايانا، وأن نبتعد عن الاستفادة السياسية من المذابح.
التاريخ الإنساني ملئ بمثل هذه الممارسات، أي نعم، ولكن لم يرتقي الفهم الإنساني إلى ما ارتقى إليه اليوم، من خلال انتشار مفهومي التسامح والاعتراف. هذا المفهوم الذي هو نتاج عصر النهضة الأوربية والذي لم يصلنا لحد الآن. وإذا كان أبناء الكورد في الأنفال والحلبجة ( راح من الآشوريين العديد من الضحايا في الأنفال أيضا وخصوصا من منطقتي نيروا وريكان وبرواري بالا) وأبناء العرب في دير ياسين بحاجة للتذكير بهم وبمعاناتهم أفلا يحق ومن الباب الإنساني التذكير بالضحايا الآشوريين في مذابح عديدة وليست واحدة، وكل مذبحة كان ضحاياها بالآلاف من الأنفس. إذا لنقم بالاعتذار عن ما اقترفناه أحدنا بحق الآخر، وهذا الاعتراف يجب أن يكون فعلا وليس كلمات تقال بل أفعال تمارس على الأرض، ولنسامح من كان مشتركا أو كان أجداده مشتركين في مثل هذه الأعمال الإجرامية، ولكن ليكن تسامحنا فعلا وليس أسطر تكتب أو تقرأ. ولماذا لا يكون الآشوريين والكورد نموذجا لكل منطقة الشرق الأوسط في التعايش والتسامح؟
وعلى أساس هذا التاريخ المليء بالأخطاء المقترفة من هذا الطرف أو ذاك، وعلى أساس هذا التاريخ المليء بالخطايا وبسوء فهم أحد الأطراف للأطراف الأخرى، نجد الكثير من التعليقات الغبية والتي تعتبر المقابل مجموعة من المجرمين ولا تعتبرهم أناس وبشر يحتمل وجود المجرم والبريء فيهم. إن محاسبة الآشوريين لتعاملهم مع القوات الروسية أو الإنكليزية بعد عام 1916 وهم يرون أن الأرمن والآشوريين السريان قد تم ذبحهم من الوريد إلى الوريد، والآشوريين السريان لم يكن لهم أي علاقة أو مطالب سياسية، يعتبر عملية أخرى للإبادة أو الرغبة في تكرار الإبادة، وإلا ما كان منتظرا منهم السكوت والصمت بانتظار درهم في عملية الذبح، أم على الأقل المقاومة وان كانت بالقدر الضئيل. وفي الوقت الذي يعاب على الآشوريين تعاملهم مع الروس والإنكليز بعد أن رأوا إخوتهم في الدين الأرمن والقومية السريان يذبحون، يتم اعتبار ما فعله عبدا الله أمير حجاز وولده فيصل في الحجاز وفلسطين وسوريا، ثورة ضد الطغيان ويتم اعتبار المباحثات بين القيادات الكوردية والجهات الدولية المختلفة تحركات مشروعة، أليس كل ذلك كيل بمكيالين وعدم الصدق والصراحة مع الذات قبل الآخر.
إن الغاية ليست اتهام هذا وذاك، بل هي الوصول إلى الحقيقة والتعامل معها ومع نتائجها، بصورة إنسانية وليس بصورة استغلالية جشعة وغير مبالية. إنني من الناس ممن يعتبر القيادة الكوردية في إقليم كوردستان، قيادة واعية ومتفهمة، وان كانت بالطبع لنا مطالب كثيرة مشروعة، إلا أننا نتفهم الظروف والمحيط، ولكن أن يعتبر البعض وضعنا الجيد وعدم تعرضنا اليومي للقتل كما يحدث في الموصل وبغداد وغيرها من المناطق، دافعا لنا لكي نقدم ولاء الشكر والطاعة والامتنان الدائم بمناسبة وغير مناسبة وكأننا غير مواطنين من واجب الحكومة حمايتهم أمر غريب حقا، أمر غريب عن ثقافة الديمقراطية والتعددية والحريات الجماعية والفردية.