حين علمت قبل عشر سنوات بقرب إطلاق الأستاذ عثمان العمير جريدة إلكترونية على شبكة الانترنيت باسم (إيلاف) تملكني إحساس غريب بأنه مقبل على تجربة محكوم عليها سلفا بالفشل. فلا الوقت وقتها ولا المكان مكانها. وخفت عليه وعلى ماله ومعاونيه.

من يقرأ ومن يسمع؟ خصوصا وأننا في مجتمع عربي أكثرُ من ثلاثة أرباع مواطنيه إما أميون تماما، أو نصف أميين قدراتـُهم (القرائية) لا تؤهلهم لقراءة جريدة على ورق، ناهيك عن متابعة جريدة على الإنترنيت، يتطلب الدخول ُإليها والخوض في تفاصيل مواضيعها كثيرا من الدراية بهذه التكنولوجيا ووسائل استخدامها؟.

وقلت، ومثلي كثيرون، إن هذا المغامر الطموح سوف يتجرع، لا محالة، كأس المرارة والفشل الذي تجرعه من قبله أمثاله الحالمون من أرباب القصور الهوائية. وتوقعت، ومثلي توقع كثيرون أيضا، أن يسارع إلى لملمة أوراقه ومغادرة الساحة، ويذهب وتذهب جريدته طي النسيان.

ثم اطلق عثمان العمير (إيلافه)، فجاءت أنيقة غنية متنورة. والأهم من كل ذلك أنها كانت مصرة على أن تسبح في تيار الفكر الجديد، بما يحمله من فتوحات جديدة في عالم الحرية والتقدم والديمقراطية والعلمانية الصاعدة. فاحترمناها واحترمنا صاحبها وصحفييها الجريئين الشجعان الذين قبلوا المخاطرة بجهودهم وإبداعاتهم وأسمائهم وتواريخهم المهنية الطويلة بدخولهم في هذا الحلم الفضائي الجميل.

علينا أن نعترف، بأن إيلاف أصبحت، اليوم، هي الجريدة العربية الرائدة، دون شك. وقفت على قدمين ثابتتين، وصمدت بشجاعة، وحافظت على استقلالها، إلى أبعد الحدود الممكنة، فاستقطبت الملايين من العرب المنتشرين في أرجاء الكرة الأرضية كلها، لتصبح، بجدارة، مركبتنا الفضائية الرائدة التي تحمل كتاباتنا إلى ما وراء البحار. صار أحدنا يكتب في إيلاف فيجد أن قارئا في الصين، وآخر في أستراليا، وثالثا في بغداد، ورابعا في لندن، وخامسا في الواق واق، يكلمه ويبعث إليه برأيأو ملاحظة أو شتيمة، أحيانا.

ويعرف الصحفيون والمثقفون العرب أن (أثخن) صحيفة ورقية لم تعبر البحار إلا في حقيبة حكومة أو حزب أو جماعة. أما إيلاف فقد عبرتها بنوع كتابها وخامة صحفييها وسعة صدرها، وقدرتها الفائقة على احترام نفسها وقرائها.

وفي حرب النياشين الصحفية والثقافية الطاحنة في بلادنا العربية علينا أن نكون منصفين وعادلين، فنمنحها فقط للمبدعين الناجحين الحقيقيين الجديرين بالنياشين، ولا ننثرها على من هب ودب، كما يفعل قادتنا الأشاوس في أعياد ميلادهم المجيدة، أو احتفالاتهم بأمجاد حروبهم التي لا تنتهي.

ولا ننسى أن لها فضلا آخر. فهي فرَّخت مواقع أخرى عديدة. فقد خرج منها صحفيون كثيرون، فأنشاوا مواقع مشابهة، ولكن المقلـِّدين لا يطاولون المقلـَّدين. ثم منها تعلمت إذاعات وتلفزيونات وصحف ورقية عديدة، فأطلقت مواقع إنترنيتية لمنافستها، لكنها لم تأخذ من قرائها ولا من كتابها إلا النزر اليسير.

إن إيلاف خارجة عن المألوف. وأحيانا خارجة على القانون. فحين تختار أن تكون ساحة لكل (المتعاركين) العرب، بكل تبعات هذا الاختيار الصعب، فلابد أن يكون فيها مسٌ من جنون.

ففي أمتنا العربية المعاصرة تيارات ومذاهب ومراتب، ليست مختلفة مع بعضها فقط، بل متقاتلة، أكثر من أية أمة غيرها. وأغلب حروبنا، نحن العرب، وبالأخص منها الثقافية والسياسية، دامية ليس فيها حلول وسط. قاتل و مقتول. وأشد عداوة ودموية ونزوعا إلى ذبح مخالفيه في الرأي والعقيدة هو ذلك السلفي الرجعي المتخلف الذي يريد ألأن يشدنا بكل ما أوتي من قوة إلى الوراء، فيُسخـِر كل ما في يده من السلطة والمال والمساجد والحسنيات والكنائس ليطفيء شعلة الحرية الوليدة، وليذبح الفكر الحر، ويقتل العقل، ويدوس على المنطق، ويسلبنا روح المغامرة، ويئد أية شرارة من شرارات الثورة على تخلف الموروث، وشطط البعض في تأويل الدين.

وأرثي لإيلاف كثيرا وأنا أتابع ما أجده فيها من صراعات مخيفة، بين هؤلاء وأؤلئك. ومن يتابع تعليقات قراء إيلاف على ما ينشر فيها من مقالات وتحقيقات وأخبار يتملكه العجب من قدرتها على احتضان كل هذا الخليط العجيب.

إن أهم ما يحق لإيلاف أن تفخر به أنها توفر لنا، نحن الكتاب والصحفيين والمثقفين والقراء، أقصى ما يسمح به الواقع العربي السياسي والاجتماعي والعقائدي والعرفي من هامش حرية رأي وعقيدة. ويكفي أنها صاحبها سعودي ومنعت في السعودية.

قد يظن البعض أنني أمتدح إيلاف لأنني أحد كتابها. فأنا متطوع لم ولن اقبض شيئا على ما أكتبه.

وكل ما قلته عن إيلاف لم يكن أكثر من رأي قاريء عادل ومنصف يشعر بأن عليه أن يجاهر بتقديره لنجاح الناجحين والشجعان، من المثقفين. إنها سطرت لنا تاريخا جديدا من الصحافة والثقافة، ولها قصب السبق الأكيد في هذا البحر الكبير.