قبل عقد المؤتمر الثالث للإتحاد الوطني كان الرأي السائد لدى معظم قواعده وكوادره يجمع على أن هذا الحزب يعاني فعلا من أزمة قيادية، خصوصا بعد إنزلاق عدد من قياداته الى مستنقع الفساد المالي، وتورطهم في سرقة أموال الشعب وإنتهاك أعراض الناس، ومصادرة أقوات الأطفال. وكان الرأي بأن هذه الأزمة هي التي قادت بهذا الحزب المناضل والعريق نحو الهاوية السحيقة، والتي تبدى بشكل واضح من خلال الإنتخابات البرلمانية الأخيرة، التي أظهرت مدى تدني شعبية هذا الحزب الذي كان يحمل على أكتاف الجماهير في يوم من الأيام، وبينت حجم الهزيمة الكارثية التي حل بالحزب في معقله الرئيسي بالسليمانية وأربيل وغيرهما من مناطق النفوذ التقليدية للإتحاد الوطني، بشكل أثار الكثير من التساؤلات حول إصرار قادة الحزب على الإنغماس أكثر في ذلك المستنقع الرهيب بما أغضب القاعدة الشعبية ودفعتها الى التنكر لكل مواضي وأمجاد هذا الحزب في سنوات نضاله ضد الدكتاتورية..

وعلى هذا الأساس كان يفترض بالإتحاد الوطني وهو يستقبل مؤتمره العام أن يسعى الى معالجة تلك الأزمة القيادية، فالمؤتمر وهو أعلى سلطة في الحزب كان فرصة لن تتكرر كثيرا، خصوصا بعد أن حالت مصالح تلك الحفنة من القيادات الفاسدة في الحزب خلال السنوات الماضية دون عقد المؤتمر في الموعد المحدد له، وكانوا يماطلون دوما في عقد مؤتمر جديد، رغم مضي تسع سنوات على آخر مؤتمر للحزب، حرصا على تلك المصالح والمكاسب الشخصية، وهذا نادرا ما يحدث في الأحزاب الإشتراكية والديمقراطية أن تتأخر مؤتمراتها لسنوات طويلة دون مبررات موضوعية،ولكن المصالح النفعية للقيادات المتنفذة في الإتحاد حالت ولفترة طويلة دون عقد المؤتمر الثالث، لكي تستمر في تنعمها بمباهج الجاه والسلطان الى أطول فترة ممكنة،على عكس الأحزاب الحية التي تحاول تقريب مؤتمراتها بقصد التجديد والتغيير والمراجعة.

كان بعض المتشائمين خصوصا من العارفين ببواطن الأمور داخل الإتحاد الوطني لم يكونوا يتوقعون حدوث تغيير ملموس في المؤتمر القادم، خصوصا أولئك الذين ظنوا بخبرتهم الطويلة عن طبيعة قيادة الحزب، بأن هذا الحزب أصبح ملكا لشخص أمينه العام، ولا أحد يستطيع أن يناقشه أو يجادله،فما يريده يحصل، وما على الآخرين الا الخضوع والخنوعquot;.

والمعروف عن السيد طالباني أنه يدفع بأزمات ومشاكل حزبه الى التأجيل دائما، ويحاول أن يحلها بالمسكنات دون أن يواجهها بالحزم المطلوب، ولذلك تتعقد تلك الأزمات الى حين تستعصى على الحلول،وتتحول الى كرة الثلج تجرف كل ما يقف بطريقها،وكان هذا هو الحال في المؤتمر الأخير، الذي عجز أن أي إيجاد علاج شاف لأزمة القيادة المستفحلة داخل الإتحاد، فرحلتها الى مؤتمر آخر، وهذا كله سيكون على حساب شعبية الحزب التي أخذت بالتدهور المريع.

في البداية كنت أخالف الكثيرين بتوقعاتهم حول المؤتمر وأزمة الحزب الذي ناضلت في صفوفه بجبال ومدن كردستان لأكثر من عشرين عاما، ولكن الأيام أثبت صدق دعواهم وخطأ توقعاتي، فندمت على كل تلك المناقشات التي إحتدت فيها أحيانا دفاعا عن الإتحاد الوطني، وكذلك عن إدعاءاتي بأن مؤتمره سيكون حدا فاصلا للتجديد والتحديث، وهما شعارا المؤتمر!.

في مقال سابق لي بعنوان quot; الإتحاد الوطني ومؤتمر الفرصة الأخيرةquot; خاطبت الأخ مام جلال بصورة مباشرة عسى ولعل أن يطلع على مقالي، أو يوصل أحدهم فكرتي أليه، والتي حاولت مخلصا أن أستبصره ببعض الأمور الخافية عليه، وأن أشرح له ما يدور حوله، من كيفية إستغلال الحاشية الملتفة حوله قربهم منه، وأبين له الأساليب الشيطانية التي مارسوها ويمارسونها لإيهامه وخداعه، وتوسلت اليه أن يجول بنظره حوله ليرى من هم المحيطين والمقربين من دائرته، وأساله، أين ذهب كل أولئك الشرفاء الذين ناضلوا في الصفوف الأمامية لحزبه ضد الدكتاتورية طوال سنوات النضال الجماهيري،.ولكن يبدو أنه لا حياة لمن تنادي..

فالمؤتمر الذي كان معقد الآمال للكثيرين ممن بقوا أمناء على مباديء الإتحاد الوطني، وحافظوا على طهارة نفوسهم وأيديهم، وظلوا في صفوف شعبهم يستشعرون معاناتهم اليومية، تحول الى مؤتمر أسبغ الشرعية على حفنة من اللصوص والسراق وآكلي السحت الحرام ومنتهكي أعراض الناس من الوجوه القيادية القبيحة التي تكررت مرة أخرى للتسلط على مقدرات الشعب باسم الحزب.

لقد إنتزع المؤتمر مزيدا من الشرفاء والمناضلين، وأبعد من بقي من الرجال المخلصين والبيشمركة القدامى، عن مركز القرار الحزبي، وأعاد نفس الوجوه الكالحة والبطانة الفاسدة والمفسدة الى قيادة الإتحاد الوطني، فكان المؤتمر بذلك مجزرة حقيقية لكل القيم والمثل التي ناضل من أجلها مئات الألوف تحت راية هذا الحزب، وقدم الآلاف دمائهم دفاعا عنه.

فعلى الرغم من أن المؤتمر أقر شروطا محددة للترشح للهيئة القيادية من أهمها، أن لا يكون المرشح قد تعاون مع حزب البعث أو النظام الدكتاتوري المعزول، وإشترط أيضا أن يكون طاهر اليد وأن يكون بريء الذمة وغير متورطا في الفساد، ولكن الذي حدث أن عددا من رموز الفساد في الحزب والذين لبعضهم ملفات دعاوى قانونية لدى مراكز الشرطة، وفيهم متورطون بالإنتفاع بأموال الشعب وملفاتهم موجودة لدى دائرة الرقابة المالية، قد أعيد إنتخابهم، ناهيك عمن يسمون بأصحاب الفايلات من المتعاونين السابقين مع النظام البعثي، أي بالعربي الفصيح quot; جواسيس البعث quot; داخل الحركة التحررية الكردية. والمصيبة الكبرى أن هؤلاء قد تقدموا على المرشحين الآخرين المعروفين بطهارة أيديهم وإخلاصهم لشعبهم؟؟!

لقد كان الأولى بهذا المؤتمر أن يحاسب القيادات الفاسدة التي تسببت في غضب الجماهير على الإتحاد الوطني، وأن تنصب لهم المحاكم الحزبية لتطهير صفوفه من شرورهم ولكن الذي حدث أنه أعطى الشرعية لافعالهم التي إرتكبوها بحق شعبهم وحزبهم.

وفي الحقيقة يحير المرء في فهم هذا الوضع الإنتخابي داخل الحزب، وفهم المعايير التي فرضت نفسها على المؤتمر وأعضائه، ولا ندري هل فقد المؤتمرون جميعا ذاكرتهم تماما،أم أنهم جرى تخديرهم بحيث لم يعودوا يميزوا بين الطيب والخبيث، أم أن وراء الأكمة ما ورائها من تدخلات لصالح هذا المرشح أو ذاك، وهذا ليس بمستبعد في ظل التكتلات الحزبية المتصارعة داخل الإتحاد الوطني ومنذ نشوئه!!

فقد علمت من مصادري أنه كان هناك بعض المترشحين المتنفذين في السلطة قد مارسوا شتى أساليب الترغيب والترهيب داخل المؤتمر، كما كانت هناك ألاعيب للتكتلات أثناء التحضير للإنتخاب، رغم أن قيادة الإتحاد أكدت مرارا أنه لم تعد هناك لعبة التكتلات، وأن المؤتمر سيسعى الى المحافظة على وحدة الإتحاد، ولكن صعود العديد من المرشحين الى عضوية القيادة كان بالأساس جزءا من لعبة التكتلات التي كانت وستظل تدور ماكنتها داخل الإتحاد الوطني.

والحال أنني أتوقع أن تعاد نفس هذه الوجوه التي لفظها الشعب الى المكتب السياسي، والى الواجهة القيادية مرة أخرى، ليتحكموا مجددا بمصير هذا الحزب، طالما أن لعبة التكتلات ما زالت قائمة ومتحكمة بقيادة هذا الحزب، عندها لا نملك غير أن نقرأ على هذا الحزب السلام.

ولا أستطيع بهذه المناسبة الإ التشفي بما سيؤول اليه مصير هذا الحزب،الذي فشل في تحقيق الشعار الأساسي للمؤتمر وهو quot; التجديد والتطويرquot;، وسأجيز لنفسي أن أقول quot; يا فرحة حركة التغيير فيكم يا قادة الإتحادquot;، بعد أن ذهبت كل وعود التغيير والتحديث والتجديد أدراج الرياح، ولم تبق لكم الإ الوجوه الكالحة المسودة بالفساد.

وأكرر القول وبصراحة تامة quot; أن قادة التغيير لم يكونوا مخطئين بخروجهم من هذا المستنقع الذي أوصلتكم اليه قياداتكم الفاسدة، ولم يكونوا مخطئين ايضا بعودتهم الى صفوف الجماهير التي إنتزعت معقلكم في السليمانية من بين أيدي هذه الحفنة الفاسدة، وبذلك أثبتوا أنهم هم الأصح والأصلح، وما البقاء الإ للأصلح.

إذا كان السيد طالباني حسب ظن الكثيرين من أعضاء الإتحاد هو الآمر الناهي في حزبه، فإنه يتحمل وزر ما وصل اليه حال الحزب، وأبعد عن نفسه من بقي من المناضلين الحقيقيين في الحزب، وأبقى على نفس بطانة السوء التي ستطلق يدها بعد الان بشكل أكبر لإمتصاص دماء الشعب، فهذا ديدينهم وهذا ما تعلموه في السنوات الأخيرة في غياب الحسيب والرقيب.

في الختام لا يسعني الإ القول، أن هناك خللا في الإتحاد الوطني لا أعرف تشخيصه، ولكني أشبهه بعمى الألوان. فهذا الحزب لم يعد يميز بين الوجوه البيضاء التي زينها الإيمان بالمباديء وبالإخلاص للشعب، وبين الوجوه الكالحة التي إسودها الفساد واللصوصية وسرقة أقوات الشعب الذين باتت روائح فسادهم تزكم الأنوف.فلن نأسف بعد الآن على حزب إختار مصيره بيده؟!!