لا مراء من أن التجارب السياسية في العراق و مواقف القوى و الكيانات السياسية في هذا البلد تجاه بعضهم البعض، لاسيما مواقف أولئك الذين حكموا البلاد بعد أحداث 9 من نيسان 2003 الى يومنا هذا، الذي نعيش فيه في ظل فراغ إداري و دستوري، تُعتَبَر، عند كل من يؤمن بالمقولة العربية المشهورة: أسأل مجرب و لا تسأل الحكيم، تُعتَبَر بمثابة المعيار الحقيقي لقياس حقيقة المواقف المُستجدة و صحة الإتجاهات و البرامج السياسية المُعلنة، التي تُعبر عنها القوائم العراقية الفائزة، خاصة بعد دخول كل واحد منهم في لعبة المباحثات و التفاوضات المكوكية مع الأطراف الأخرى بهدف تشكيل الحكومة.

و القول هنا أن التجربة هي القياس و ليس الإدعاءآت و البرامج المطروحة، هو قول من باب القرآءة للخارطة السياسية الجديدة للعراق و للتطورات التي طرأت على موازين القوى بين القوى العراقية، التي أصبحت اليوم تمثل كل واحد منها مكون من مكونات الشعب العراقي حتى و إن أدعت أي منها أنطلاقها من إتجاهات وطنية بحتة و زعم عدم تورطها في دغدغة المشاعر الطائفية أو القومية، ذلك لأن الحالة العراقية أصلاً لا تحتمل مثل هذه الإدعاءآت.

كما أن الإشارة هنا الى أهمية أخذ التجارب الماضية للقوى العراقية بعين الإعتبار بدلاً من التعامل المطلق مع برامج هذه القوى، هي نتيجة إستنتاج كل مراقب لما آلت أليها هذه البرامج السياسية ذاتها على أرض الواقع و ما نتجت منها، في مراحل مختلفة، من مواقف متباينة بل متناقضة كل التناقض مع مضامينها، خاصة عند القوى التي كانت على رأس هرم الحكم في البلاد منذ سقوط النظام البائد الى اليوم و عند القوى السياسية الأخرى التي أدعت الوطنية و العراق الموحد و المستقل بينما نرى اليوم أنها تتورط، أكثر من غيرها، في لعبة الإستقواء بالقوى الأجنبية و الأقليمية لتغيير ميزان القوى في الداخل و لضرب القوى العراقية الأخرى.

يهمني هنا، بالدرجة الأولى طبعاً، موقف الكُرد من هذا الموضوع، خاصة لأنني كُردي فضلاً عن عراقيتي و أعرف أن دفاعي عن كُرديتي أو قضايا هذا الشعب أو حاضره و مستقبله لا يخالف دفاعي عن العراق طالما أن مفهوم الهوية، في النهاية، لاسيما مع المجتمعات التي تتسم بالتعددية القومية و الثقافية و الدينية، هو ما نمثلها في وجوه و أبعاد مختلفة و متعددة لتتلاقى جميعها في النهاية في المرجع الرسمي إلا و هو الهوية العراقية حتى و إن كانت، هذه الهوية، بالنسبة لنا نحن الكُرد، مُقَدَرة علينا سياسياً بل ناتجة عن أحداث و تطورات عالمية تعود الى عهد مابعد الكولونيالية، أي الى الظرف التاريخي الذي كان لا حول لنا، فيه، و لا قوة.

بمعنى آخر، أن إهتمامنا بموقف الكُرد من هذه المسألة راجع الى دعم المنطق الذي يتفهم خطورة مستجدات سياسية تؤول الى إضعاف موقف المكون الكردي في العراق و تهميش دوره في إبعاد البلد من مخاطر الحرب الطائفية التي كانت على الأبواب دوماً لولا حيادية الكُرد من الصراعات السياسية المذهبية في العراق، بل تمثيله دور الوسيط و عامل الخير بين القوى المتنازعة.

و خوفنا هنا من الموقف الكُردي هو تحديداً، الخشية من عواقب غياب منظور أستراتيجي لكيفية التعاطي مع القوائم العراقية الفائزة و الإلتصاق و حسب بشعار: التعامل مع البرامج السياسية، الذي صار الآن شعاراً بل تصريحاً يوميا نسمعها من قادة الكُرد و من ممثلي الكتل الكردستانية في معرض ردهم على أي سؤال عن أسس التفاوض مع الكيانات العراقية الأخرى.. أي أننا نخشى هنا من نسيان الكُرد لأحداث الماضي و التجارب المُرة التي مرت على البلاد و عدم الإستفادة منها كدروس و عبر سياسية للوقت الحاضر أو الأخذ بها كأسس للتفكير في إجراء أية تحالفات سياسية جديدة، خاصة أننا نعلم أن الكُرد يعول عادةً في العمل السياسي و في إتخاذ القرارات المصيرية، على تجربة و حنكة قياداتها السياسية فقط، أي أنه يفتقر لمراكز بحوث و دراسات تختص بدراسة الإستراتيجيات السياسية و فهم البنى الفكرية و السياسية للقوى العراقية و مواقفهم المتقلبة بل الإنقلابية أحيانا و الراجعة أصلاً الى إزدواجية الشخصية العراقية التي كانت و ما تزال مصدراً من مصادر ويلات الشعب العراقي خاصة عندما تتجسد هذه الإزدواجية، و هنا المأساة، في الشخصيات السياسية التي تدير أمور البلاد و تحكم بحياة الشعب و مصائر المجتمع.

بمعنى آخر، أن أسوأ رؤية للكُرد للتعاطي مع القوائم العراقية الفائزة بل أكثرها سذاجةً هي المراهنة على الشعارات و البرامج المطروحة لمعرفة نوايا و المرامي و إغفال الإستراتيجيات المكبوتة و المستورة التي تنتظر الظروف الموآتية للتعبير عن حقيقتها، و لا أشك في أن القيادة الكردستانية سوف لن تكون قادرة على قراءة هذه الإستراتيجيات المؤَجَّلة بشكل مطلوب و ملحوظ طالما لم تُبَيّن لنا خياراتها حتى الآن إزاء أي إحتمالات مستقبلية قد تعصف على العراق عموماً و على مواقف القوى السياسية العراقية خصوصاً، سيما أننا لم نر منها حتى الآن سوى التأكيد فقط على خيار المقاطعة و الإنسحاب من الحكومة القادمة عند أي تنصل للقوى المُشَّكِلة لها من وعودها التي أطلقتها للطرف الكُردي، و الحق أن هذا الخيار، في نظري، ليس سوى خيار عقيم لا يجني الكُرد من وراءها أي مصلحة سياسية أو قومية سوى الوقوع في مأزق تأزيم الأوضاع أو زعزعة الإستقرار السياسي لفترة قصيرة ليس إلا.

بعبارة أخرى، ينبغي على الكتل الكردستانية أن تملك رؤية أستراتيجية في التحالف مع القوى العراقية و أن تفكر في تدبير و توفير الخيارات المتاحة أمامها عند أي صدمة سياسة تخلقها لها الأطراف الأخرى و أن تكون واقعية و أرادوية في الوقت ذاته، أرادوية بمعنى ضرورة إشتغالها على مصادر قوتها و تطويرها و بالتالي أستثمارها دعماً لخطابها و مواقفها السياسية، فالمعلوم هو أن الصراع الدائر في العراق هو، للأسف، صراع طائفي و قومي بالدرجة الأولى حتى و إن لبس لباساً سياسياً، أي تمظهر لنا، في أغلب الأحيان، في صورة الصراع على السلطة و الثروة، خاصة أن نفهم أن الكُرد لايهمه مدى سلطانه في بغداد بقدر ما يتشبث به لحماية نفسه و لإرساء قوته في أقليم كردستان و ذلك ككيان فدرالي أصبح اليوم رابطاً معنوياً يربطه بالعراق و يحثه على أن يبقى في إطاره.

* رئيس تحرير مجلة ( والابريس ) - كُردستان العراق