تقول نكتة قاسية ان شابا عراقيا احرق نفسه احتجاجا فجلس اصدقاؤه يتدفأون عليه! الصورة التي تعرضها النكتة مرعبة من دون شك. انها تعبير عن رؤية سوداوية الى الذات، ويأس من النفس، وزعل شديد مما تعتبره قلة احساس، وهي في كل الأحوال quot; نقد ذاتيquot; شديد. ونرى هذه الايام دعوات واستعدادات بين شبان عراقيين لتنظيم تظاهرات احتجاجية. وقد اعادتني هذه الدعوات وأجواء هذه الأيام عموما الى ذكرى انطباع كونته قبل ثمانية اعوام عن شبيبة العراق.
بعد بضعة ايام من سقوط نظام صدام دخلت الى العراق ضمن فريق اعلامي تابع لفضائية ابو ظبي. وعلى مدى 45 يوما درت في عدد من المدن ابرزها بغداد. اهم ملاحظة خرجت بها يومذاك هو ان شبيبة العراق كانت متحررة كليا من الأدلجة. كان تطلعها دنيويا صرفا. كان عالم الألم، عالم صدام حسين، قد حررهم كليا من تأثير الأفكار السياسية، بعثية او شيوعية او اسلامية. كل ما في الأمر، ويا له من أمر، ان صدام حسين حرمهم من الحياة، وهم يريدون استعادة الحياة. والحياة يا سادة ليست شيئا آخر غير عيشة كريمة. وهذه الاخيرة بدورها ليست شيئا آخر غير الرزق المؤمن والاحترام الموفر.
وكل هذا كان غائبا الى درجة ان الموظف كان يعيش على ثلاثة دولارات في الشهر مدعومة ببطاقة تموينية. فقد عاشت البلاد بين سيفي الحصار والدكتاتورية لمدة 13 عاما. وكانت شدة تلك الاعوام تعادل في تأثيرها شدة اربعة قرون من الحكم العثماني الذي صار العراق في ظله قريبا من العدم.
كان الشباب العراقي المتعلم، وهو نسبة كبيرة من السكان، مهيئا لتغيير ديمقراطي. ذلك ان الديمقراطية تمثل استجابة لأي تطلع الى الحياة. فلم يعرف التاريخ استجابة افضل منها لمطلب الحياة الكريمة.
لكن السياسة سرعان ما حولت العراق من الوجهة الديمقراطية الى الوجهة الطائفية! فالطبقة السياسية التي تصدرت المشهد ثم قادته وحكمته كانت ومازالت طائفية حتى النخاع. وفي ظل هذا المنعطف اصبحت السياسة في العراق حربا مستمرة على تلك الروح الشابة، الروح الديمقراطية. تنظيم quot; القاعدةquot; في ايام مجده واجه كل اشكال الحريات المدنية بضراوة. وتابعته تنظيمات الاسلام السياسي الشيعي والسني في السير على نفس الطريق. فالخصمان يختلفان على كل شيء ولكن ليس على الحريات المدنية، من ازياء النساء الى صالونات الحلاقة، مرورا بالفنون والاختلاط بين الجنسين في الجامعات الى نوادي او محال المشروبات الروحية. وهكذا وجد شباب العراق نفسه يعيش ( بالاحرى يموت) في طبقة من الارض تقع تحت طبقة اخرى من موجة اصولية طاغية. وشملت الموجة عددا كبيرا من الشباب المتعلم نفسه.
استذكر تلك quot; الروح الشابةquot; المجهضة وانا انظر اليوم الى نظيرتها المصرية الناهضة الى درجة قيادة واحدة من اهم الثورات في تاريخ العالم.
ولا توجد امكانية للمقارنة بين شبيبة العراق عام 2003 وبين شبيبة مصر. الاولى كانت خارجة من عتمة دكتاتورية وحصار، محرومة من كل شيء خصوصا وسائل الاتصال الحديثة بما فيها الفضائيات التي كانت ممنوعة. في حين كانت نظيرتها المصرية تنعم بنسبة لابأس بها من فرص العمل وحرية التعبير وفوق ذلك الصلة الحية بوسائل الاتصال الحديثة، وهي الصلة التي فجرت ثورة 25 يناير.
المفارقة المؤلمة هي ان وحشية صدام خلفت روحا شابة لائبة متطلبة للحياة، بينما غدت هذه الروح جامدة في ظل quot; الديمقراطية الطائفيةquot;. احسن مخلفات الدكتاتورية قضت عليها الطائفية.
واليوم فان الاندفاعة الشبابية التي بدأت في تونس واشتدت وتضخمت في مصر مرشحة لأن تعم معظم الجمهوريات العربية ما عدا الجمهوريتين الطائفيتين: لبنان والعراق (العراق العربي فلكردستان وضع مختلف). ذلك ان الطائفية تقف اشبه بالسد امام الموجة الشبابية. ففي بلدان الطوائف يجد الفرد ممثلا له بهذا القدر او ذاك في الطبقة السياسية. ان الطائفية ظاهرة شعبية، فهي عصبية اجتماعية تجد لها ممثلين في ساسة وحكام ورجال دين. وبالتالي فهي تحد ان لم نقل انها تشل التحرك نحو اهداف اكبر، أهداف عابرة لأسوار الطائفة.
خلافا لذلك فان افق البلدان المبرأة من الطائفية اكثر حرية في التحرك نحو اهداف ابعد. ففي حالة مصر مثلا كانت هناك طبقة سياسية حاكمة ومعارضة جامدة عند وضع معين، وهي معزولة عن تطلعات شرائح وفئات شعبية. وقد جاءت فاعلية التغيير من خارج هذه الطبقة التي لم تعد تمثل الشباب ولا تجذبهم. هذا الانفصال بين الجانبين هيأ احد اسباب اندفاعة الشباب الى دروب الحرية. فالساسة هنا في مصر غير الطائفية لا يمثلون شيئا. هكذا تقدم الشباب ليمثلوا انفسهم بأنفسهم، ثم ليوسعوا دائرة الثورة ويبدأوا صناعة مستقبل بلدهم.
لكن المشكلة مع ساسة الطائفية هي انهم يمثلون ما هو اكثر من انفسهم وما هو ابعد من طبقتهم. وتساعدهم في ذلك ثقافات اجتماعية مازالت اكثر تخلفا من استيعاب التنوع او التعدد: هكذا لا يوجد اليوم حزب عليه القيمة فيه تمثيل للتنوع العراقي. وصناعة حزب او احزاب من هذا النوع ينبغي ان تمثل اهم اهداف اي فاعلية احتجاجية ذات معنى. فهذه الصناعة وحدها كفيلة بانتشال السياسة من الجمود الطائفي.
ان اسباب الغضب كثيرة في العراق. ومنها ان هناك من حوله دولا فاسدة، اما العراق نفسه فقد تحول الى فساد وله دولة. ولكن سكرة الطائفية تخدره. والنفط يمكن ان يستخدم لرشوته عند الضرورة. ولكم اتمنى ان اكون مخطئا فأرى شبيبة مصر تعيد الروح الى شبيبة العراق، تلك الروح التي سعدت بها في نيسان 2003. ولعلها ستفعل مهما بعد الوقت. ذلك ان احد المضامين المهمة للثورة المصرية يكمن في اطلاقها الهجوم المعاكس على الطائفية في العالم العربي والاسلامي.