لا ينهار عالم النظام العربي من دون اثمان كبيرة تدفع. فهناك مصالح كبرى لاشخاص ولمؤسسات ولشرائح اجتماعية لا يسهل التفريط بها. وهناك جزء كبير من هذا النظام شيد وقام على اساس quot; قلة الأدبquot;، ولن يسلم رجاله بالخسارة بكل أدب. وهذا ما عبرت عنه صورة البلطجية وهم يقتحمون ميدان التحرير على ظهور الخيل والجمال.
وقد ذكرتني هذه الصورة بقصة حدثت معي وانا مراهق ابن ستة عشر عاما. لا اتذكر تماما عدد الكتب التي كنت قرأتها في ذلك العمر، وما اذا كان واحدا ام عشرة، واشك حقا في ما اذا كنت قد فهمت شيئا مما قرأت. لكن الذي انا على ثقة منه هو ان طريق مطالعة quot; الكتب الخارجيةquot; في العراق انذاك كان يؤدي الى الشيوعية. وهذا ما حدث معي اذ اقتربت منها وحسبت عليها وانا في ذلك العمر المبكر.
وفي صباح احد ايام العام 1970 القي علي القبض وانا في المدرسة بتهمة العمل في ما سموه quot;عصابة الشبحquot;، وهي حسب الشرطة كانت تبتز الاموال من العوائل تحت طائلة التهديد بخطف ابنائها. وشملت التهمة عديدين من امثالي واقراني بينهم صديق العمر الصحفي والكاتب العراقي عامر بدر حسون.
كانت quot; السياسةquot; في تقدير حزب البعث الحاكم رتبة اكرم من ان يرمي بها خصومه او منافسيه ، والمطلوب هو الحط من قيمتهم، وتشويه سمعتهم، فتخفض رتبتهم من مناضلين الى حرامية. تلقيت الدرس وهضمته وانصرفت عن كل ساسة وعن كل سياسة منذ ذلك العمر. لكن في وقت ما بعد تخرجي من الجامعة والتحاقي بالخدمة الالزامية في الجيش، هجمت علي quot; السياسةquot;، وطلب مني الانتساب الى الحزب الحاكم. كان ذلك عام 1979 . اعتذرت. لكن الهجوم quot; تصاعدquot; الى درجة الزامي بكتابة رسالة توضح اسباب اعتذاري، موجهة الى الحزب، اضع على رأسها كلمات تمثل الحزب، وهي وحدة حرية اشتراكية، وتحتها هذه الصيغة ( الموضوع : طلب عدم انتساب للحزب). وفعلت، ثم شرحت اسباب اعتذاري ولم يكن بينها بالطبع اي سبب بطولي، وانما هي اعذار صغيرة وبريئة مع التعبير المنافق عن الاستعداد quot; لخدمة الحزب والثورةquot; من خارج التنظيم.
كان ذلك الحزب قد تحول الى بذاءة. ولكن بما انه هو الحاكم وانا المحكوم فقد جرى التعامل معي على انني الشبهة وانني البذاءة . حكم القوي!
ان تسقيط الخصوم نهج قديم كان لينين ما غيره من اهم رواده. ففي كتابه quot; ما العملquot; يضع للسياسة طريقا صحيحة واحدة وكل ما سواها من طرق مستنقع. واتبعت هذا النهج كل مدارس الحزب الواحد والفكر الواحد. ولعل احزاب الاسلام السياسي اوصلته الى اعلى مراحله بتهم من نوع كافر واباحي. مع هؤلاء صرنا نترحم على ايام تهم الشيوعيين والقوميين من نوع كذاب وجاسوس او حرامي. فهذه الاخيرة تريد ان تسلب منك مكانا في الدنيا. اما تهم quot; الجماعات الالهيةquot; فانها تريد ان تحرمك من الدنيا والآخرة.
ان النتيجة المحتمة لهذا النهج هي موت السياسة. فالسياسة هي صناعة الخير العام. لكن اذا تحكمت فيها قلة الأدب تحولت الى صناعة الشر العام، والى بيئة طاردة لكل أدب. ان عالم التسلط والطغيان هو عالم قلة ادب، لا يستطيع اي انسان محترم ان يجد لنفسه مكانا فيه. وقد اصبح تاريخ السياسة العربية منذ مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، في احد وجوهه، هو تاريخ اهانة المحترمين، أمثال عبد الرزاق السنهوري في مصر وعبد الرحمن البزاز في العراق. وليس نزيف العقول العربية المهاجرة الا وجها من وجوه هذا التاريخ المحزن.
ومصر نموذج بين الجمهوريات العربية ( للملكيات اوضاع مختلفة)، ولكنها النموذج الأهم لأنها الدولة العربية الأهم. النهاية التي وصلت اليها هي هذا الموت: حاكم أوقف الرئاسة على شخصه وفرض ان لا تتجاوزه على مدى عمره الا الى ابنه، هذه مشيئته وهذا عمله، وليس لأجهزة الدولة من تحته الا الاستجابة، وليس للصحافة وللمعارضة غير الكلام.
والكلام، على اهمية اباحته، جامد عند موضوع الجمود. والسياسة، سلطة ومعارضة، جامدة هي الاخرى عند الموت. والحياة السياسية تتألف في كل مكان من نخبة او طبقة سياسية موزعة بين الحكم وبين المعارضة. فمن اين يأتي الفرج وتنفتح باب من هذا الموت على الحياة اذا كانت النخبة جامدة في مكانها بلا حركة؟ الذي في المعارضة مرغم على زواج كاثوليكي من المعارضة، والذي في السلطة خالد كذلك في موقعه لا يقبل تبديلا؟ وهذا الموت السياسي لا يغري الناس بالمشاركة ولا يجذبهم. سادت السلبية وعم فقدان الأمل. فمن يختار السباحة في بحر ميت، وعلاوة على ذلك، قليل ادب وعنيف اذا لزم الامر؟
ومن خارج هذه النخبة السياسية، الحاكمة والمعارضة معا، من خارجها تماما انبثقت شبيبة حديثة من صفوة الطبقة الوسطى، وفتحت من ميدان التحرير وسط القاهرة بابا اعادت الروح الى السياسة. هذه على ما اعرف حركة جديدة تماما على مسرح التاريخ:حركة سياسية بل ثورة من ابطال غير سياسيين. ظهرت فجأة وكشفت عن قوة نائمة، وايقظت قوة نائمة، هي قوة الناس، وها هي تملي نفسها على السلطة وتحظى بمباركة المعارضة، وها هي تبدأ في اعادة الحياة السياسية، ثم في اعادة رسم الخارطة السياسية.
ولكن هناك اقساما من السلطة لا تكاد تصدق ما جرى، ولا تستطيع ان تسلم بهذه القوة الجديدة، ولا ان تستسلم لها. ماذا تفعل؟ لعبت ورقة العنف في quot; جمعة الغضبquot; فزادت الاحتجاج اشتعالا. ثم ها هي تلعب ورقة قلة الأدب، جنبا الى جنب مع العنف، فاخرجت منها البلطجة، وشاهد العالم اجمع سياسة قلة الأدب وهي تهاجم شباب التحرير الانساني بالسلاح الأبيض من على ظهور الخيل والجمال. ما هي السياسة التي يدافع عنها بهذه quot; المادة البشريةquot; وبهذه الطريقة ؟هل يمكن ان تكون شيئا اخر غير البلطجة وغير قلة الأدب نفسها؟
لكن مصر تغيرت عما كانته زمن اهانة السنهوري، وكذلك العالم من حولها. ان عالم الصورة صنع حساسية جديدة تجاه العنف وتجاه قلة الأدب. والشفافية التي عممتها الانترنت هي في حرب شعواء على الفظائع التي ترتكب تحت أستار الظلام. العالم يصبح شيئا فشيئا من دون اسرار. وهكذا فانه بدل النجاحات التي كانت تحصدها سياسات قلة الأدب، سياسات احتقار حقوق الانسان، تحولت هجمة البلطجية الى فضيحة مدوية في العالم للنظام الذي كلفت نفسها مهزلة الدفاع عنه. فقد احرجت اجنحة عديدة من النظام الحاكم ، واحرجت اكثر الشعب المصري الذي يعد الأدب طبيعة عميقة في شخصيته.
لقد منحت عملية البلطجية انتفاضة مصر قوة هجومية هائلة اجبرت وجوه النظام الحاكم، من الرئيس الى نائبه الى رئيس الوزراء، على التحول كليا الى خط الدفاع. والنظام المصري سيظل في هذا الموقع الى ان يستجيب للتحرير الديمقراطي الذي يحمل لواءه شباب مصر.
ان سياسة جديدة تريد ان تولد. وان سياسة قديمة تقاوم. ولعل ردود الفعل الواسعة على البلطجة عكست سقوط نجاعة قلة الأدب كوسيلة من وسائل هذا الصراع. وسوف لن يشين هذا الصراع شيء اذا اخليت وسائله من الاحتقار واستمر بكل أدب. ان الادب هو الخط الفاصل بين حياة أو موت السياسة. ولكن المشكلة الأزلية هي ان قلة الأدب لا تزول من السياسة اذا لم تخضع الى القانون. فمن أمن العقاب اساء الأدب. والديمقراطية وحدها تخضع السياسة للقانون: هذه فقط هي المشكلة! وبخلافه فان أخلاق الرؤساء والساسة والناس اجمعين تعتمد على مقومات عديدة اخرى بينها الحظ!