الحلقة الاولى

الحلقة الثانية

ذكريات عراقية ndash; يقدمها أ.د. شموئيل (سامي) موريه 2


دق جرس الباب في حولي الساعة الحادية عشرة مساءً ليلة quot;عيد المظلةquot; في الدار التي أسكنها في محلة الهندية في بغداد، وعندما اتجهت أنظارنا نحو النافذة رأينا سيارة شرطة الأمن رابضة قرب الباب وقد جلس في وسطها ابن أخي وشريكي في معمل الطابون السيد صالح معلم تعلو وجهه إمارات الحيرة والارتباك يحيط به نفر من شرطة الأمن، وأنت لا تعلم أيها القارئ الكريم ماذا يعني هذا المنظر بالنسبة لنا آنذاك، فقد كان مجرد سماع دقات جرس الدار ليلاً يبعث الفزع في نفوس ساكنيه فزبانية حزب البعث كانوا يعتـقـلون ضحاياهم ليلاً وفي جنح الظلام، والاعتقال معناه التوقيف والمحظوظ من عاد من التوقيف حياً وفد لا يعود إطلاقا.
فتحت زوجتي الباب ولا مفر من فتحه طبعاً، فدخل معاون شرطة الأمن ومرافقوه فأجلسناهم في الصالون وبعد شرب المرطبات قال لي إن مدير أمن بغداد يرغب في توجيه بعض الأسئلة إليك فيلزم مرافقتنا، فطلبت منه زوجتي أن يسمح بأخذ ملابس نوم وبطانية فأجابها لا حاجة لذلك فبعد نصف ساعة يعود لك زوجك، علما بان زوجتي ظلت ساعات تنتظر عودتي وقد جلست قرب الشباك محتضنة طفليها حتى الصباح وهي ترتعد خوفا حيث بقيت لوحدها في ذلك الجو الرهيب الذي كنا نعيش فيه وهي لا تتمكن من اللجؤ إلى دار ذويها أو احد الجيران في ساعة متأخرة من الليل لئلا تفزعهم.
سارت بنا السيارة مسرعة فوصلنا إلى مديرية أمن بغداد وأدخلونا أنا وابن أخي إلى ديوان مدير أمن بغداد الفخم، فأشار علينا بالجلوس وعندما جلسنا شعرت بشي من الارتياح وقلت يظهر أن الأمر ليس بالخطورة التي تصورناها، ثم قال لنا مدير الأمن أن متصرف لواء الديوانية يطلب حضوركم فورا، فأجبته إننا رهن إشارة السيد المتصرف، واتصل هاتفيا بأحدهم وقال لقد أحضرنا اليهوديين المطلوبين وسنسفرهما على ضوء برقية متصرف الديوانية وغادر مكتبه، ثم عاد معاون الأمن الذي اعتقلنا وقال نعبركم إلى موقف الأمن العام لقضاء ليلتكم هناك وغدا يجري تسفيركم إلى الديوانية، فطلبت منه أن يسمح لنا بجلب ملابس نوم وبطانية، فرفض، توسلت إليه فاجب هذه هي الأوامر الواجب علي تنفيذها. وصلنا موقف الأمن العام بعد منتصف الليل فأدخلونا إلى غرفة صغيرة فيها بضعة موقوفين فتكرم احدهم مشكورا وأعطانا بطانية خفيفة تمددنا عليها أنا وزميلي حتى الصباح. لقد سبق واعتقلنا قبلا أنا وزميلي وأمين صندوق الشركة السيد صبيح جبرائيل وبقينا مدة في التوقيف في موقف الجانب في الديوانية وكانت التهمة الموجهة إلينا ظاهرها الصهيونية والتجسس لحساب إسرائيل وباطنها ممارسة الضغط والتهديد لانتزاع معمل الطابوق العائد لي ولشركائي ولدي أخي السادة عزت وصالح ساسون معلم بدون أي مقابل أو تعويض، ثم أطلق سراحنا لإتاحة الفرصة لنا للمداولة والرد على طلبهم بعد أن حصلنا على قدر لا بأس به من التعذيب النفسي والتهديد والوعيد، ولقد قال لنا صراحة معاون الجانب السيد شمسي، بأن المسؤلين كلفوه بإبلاغنا إذا لم نترك معمل الطابوق ونتنازل عنه طوعا نصبح نحن وعوائلنا شذر مذر، وها نحن الان نتعرض لحملة اضطهاد جديدة، توقعت أن تكون أشد من سابقتها وأقوى.
في الصباح نقلونا إلى موقف السراي لكي يجري تسفيرنا من هناك إلى الديوانية وقد بذلت السيدة خالدة زوجة زميلي الأخ صالح جهودا كبيرة حتى عرفت مكان توفيقنا فأوصلت لنا قنينة حليب وبعض الطعام وبطانيتين. أدخلونا إلى ردهة كبيرة فيها خليط من الموقوفين من كل الأصناف. جلسنا ومرت الساعات بطيئة ننتظر تسفيرنا وكنت وصاحبي نضرب أخماسا بأسداس، ترى لماذا تتخذ كل هذه التدابير الشاذة الصارمة لتسفيرنا؟ إذن الموقف خطير والله يعلم ما ينتظرنا هناك، وبينما نحن في هذه الدوامة من الأفكار اقترب نحوي احد الموقوفين والشرر يتطاير من عينيه وبادرني قائلا: لماذا أعطيت عليّ إخبارية في البصرة أدت بي إلى السجن يا داود؟ أجبته أنا لم اخبر عنك لسبب بسيط وهو أنني لست داوداً، بل اسمي هارون ولم أكن في البصرة منذ أكثر من عشر سنوات، فقال لا أنت داود واحتد الجدل بيننا إلى أن تدخل احد الموقوفين وأنبه بشده فعاد إلى مكانه.
قضينا يومين في هذا الموفق وفي صبيحة اليوم الثالث قادونا إلى سيارة هيكلها عبارة عن صندوق محاط بالأسلاك غليظة وأدخلونا فيها بعد أن قيدونا أنا وزميلي معاً يدا بيد بالحديد (كلبجة) وقفلوا بابها. طافت بنا السيارة داخل بغداد فترة، تارة لملء خزان البانزين وأخرى لأخذ موقوفين من هذا الموقف أو ذاك استغرق زمنا، حتى سارت السيارة على الطريق العام نحو الديوانية. وما أن وصلت السيارة إلى المحمودية حتى أوقفها مفوض الشرطة وأمر السائق أن يعود بها إلى بغداد. حاولنا أنا وزميلي أن نجد تفسيرا لذلك فلم نفلح، أخيرا وصلنا إلى موقف السراي أي عدنا إلى المركز الذي خرجنا منه، ففتح باب السيارة معاون الشرطة وحملق في وجوهنا واقفل الباب مجددا. وهنا علمنا بان احدهم اخبر الشرطة بان سيارة خاصة تنتظرنا خارج بغداد لكي نعبر إليها لتنقلنا إلى الديوانية بعد رشونا سائق السيارة، ولذا أمروا بعودة السيارة للتأكد من عدم نزولنا منها. عادت السيارة وسارت بنا نحو الطريق العام إلى الديوانية. كان الهواء البارد يعصف بنا طوال الطريق ويدانا مقيدتان بالحديد أنا وشريكي معا، وأنا شارد الذهن أحملق في السحب المتناثرة هنا وهناك في السماء ولعلي كنت أحاول الهاروب من التفكير في الحالة السيئة التي نحن فيها. وصلنا مدينة الديوانية مساءً واستغرقت السفرة من الصباح حتى المساء ثم طافت بنا السيارة داخل بلدة الديوانية إمعانا لإذلالنا وأهانتنا، وكنت ألاحظ على وجه من يرانا من معارفنا ونحن بهذه الحالة المزرية إمارات الاستغراب والإشفاق. أدخلونا السجن الكائن في الصوب الكبير ففكوا القيود من أيدينا وبعد تفتيشنا أدخلونا إلى غرفة طويلة مكتظة بالمساجين تمر فيها ساقية صغيرة يجرى فيها مياه قذرة تنبعث منها روائح كريهة فذهبنا إلى مأمور مركز السجن فاستعطفناه لتغيير مكاننا فحولنا إلى غرفة صغيرة فيها موقوف واحد من أبناء العشائر متهم بالإخلال بالأمن، وقد رحب بنا وقال لا تحزنوا فالسجن هو مدرسة للرجال الشجعان. وما أن حل الظلام وقبل أن نأخذ قسطا من الراحة استدعانا مفوض السجن وابلغنا بان مدير شرطة اللواء يرغب في مقابلتنا، فنقلنا إلى جناح مديرية شرطة اللواء. أدخلونا على مدير شرطة الديوانية فأشار إلينا بالجلوس وطرح علينا بعض الأسئلة عن معمل الطابوق وعن الشركاء المساهمين، كميات الإنتاج، محتويات المعمل، متى أنشئ إلى أن دخل إلى صلب الموضوع فقال هل أبلغكم المعاون شمسي بقرار المراجع العليا فيما يخص التنازل عن المحل عندما كنتم موقوفين سابقا؟ أما قال لكم إن لم تتنازلوا تكون العواقب وخيمة عليكم وعلى عوائلكم؟ عندها علمنا أن كل هذه المناورة هي من ضمن نطاق التهديد والتعذيب لإرغامنا على التنازل مجانا عن المعمل. حاولت إقناعه قائلا إن شريكنا رجل مريض في بغداد ونحن كما ترانا ثلاث عائلات تعيش على واردات المعمل وليس لنا أي مورد آخر فكيف نعيش إذا تركناه وماذا يمكننا عمله في هذه الظروف الصعبة التي يمر بها يهود العراق، لقد وضعنا كل ما تملك من مال وما ربحناه وما استلفناه على توسيع وتجديد المعمل ولم تبق لنا والحالة هذه الطاقة المادية أو المعنوية لنبدأ حياتنا من جديد، فأجابني ببساطة قائلا خير لكم أن تتركوه فقد ربحتم منه ما فيه الكفاية وهربتم الكثير إلى إسرائيل. ثم أشار إلى المعاون شمسي فاصطحبنا إلى موقف الجانب حيثما كنا موقوفين سابقا للسبب الذي نحن موقوفين من أجله الان وهو لإرغامنا للتنازل عن معمل الطابوق في حين كانت التهمة التي أوقفنا من أجلها هي التجسس والصهيونية. أدخلونا إلى غرفة التوقيف وهي غرفة صغيرة لا شباك فيها، لها باب من القضبان الحديدية وفي ركن فيها توجد صفيحة فارغة للتبول- وكنت لا اشرب الماء بتاتا لكي لا اضطر لاستعمالها- وعلى جدرانها ترى طوابير القمل صاعدة نازلة وفيها موقوفين من مختلف الأصناف وعند دخولنا ارتمينا أنا وزميلي على البطانية ورحنا في سبات عميق حيث إن حوادث الأيام الماضية وقلة النوم ومشقة السفر أنهكت قوانا وحطمت أعصابنا ومعنوياتنا.
في صباح اليوم التالي تعرفت في الموقف على الشيخ سلمان الناصر وهو من شيوخ عشائر الرميثة ورئيس إحدى عشائرها وبالمناسبة نذكر إن عشائر الرميثة كانت معروفة بشدة باسها وشجاعة أفرادها في القتال وهم الذين هزموا الجيش البريطاني في معارك العارضيات قرب الرميثة وذلك أثناء الثورة العراقية سنة 1920 فقتلوا أو اسروا جميع أفراد القوة الموجودة في المنطقة آنذاك وهم الذين أنشدوا الهوسة المشهورة (الطوب(1) أحسن لو مكواري(2)). والشيخ سلمان هو رجل ذكي وقور وبالرغم من عدم تلقيه ثقافة في المدارس فقد كان واسع الاطلاع في مجريات السياسة الداخلية في العراق وهو ذو أخلاق ممتازة وكان وجوده في التوقيف بسبب نزاع دموي حصل بين عشيرته وعشيرة أخرى فحجزوه في التوقيف كي لا يتجدد القتال بين العشيرتين. دعانا للجلوس إلى جواره وكنا نتجاذب أطراف الحديث مما خفف عني بعض الهموم والهواجس التي كنت أعاني منها فحكيت له أسباب توقيفنا وعن الضغوط والتعذيب والتهديد التي نتعرض لها لإرغامنا على التنازل عن معمل الطابوق المصدر الوحيد لإعالة ثلاث عائلات وكيف إن هذا المعمل كان الوحيد في المنطقة بتنظيمه وسعته وجودة إنتاجه وكيف أن حياتنا مهددة من قبل الحكومة على لسان موظفيها المكلفين بحماية أرواح المواطنين، فأيدى أسفه الشديد للمأزق الذي كنا فيه، ومرة قال لي (شوف يا هارون) صحيح إن تقاليدنا تقول إن الرجل يتوجب عليه أن يموت دفاعاً عن عرضه أو دينه أو ماله ولكن نصيحتي لكم هي أن تفكروا بالموقف بحذر، فإذا تطور إلى درجة الخطر على حياتكم حينئذ يجب التضحية بالمال حفاظاً على حياتكم، ولا يمكنكم مقاومة إرادة الحكومة فأنت تراني محجوزا في هذه الغرفة القذرة مع رجال من السراق والمجرمين وأنا رئيس قبيلة كبيرة. ولقد ارتحت إليه كثيرا طوال أيام الفترة الثانية من توقيفنا في هذا الموقف وهو الوحيد بين الموقوفين الذي تمكنت من تبادل أطراف الحديث معه بين الحين والأخر.

يتبع ndash; ذكريات أهرون موريه - رقم 4