ذكريات عراقية، سلسلة جديدة يقدمها أ. د. شموئيل (سامي) موريه (2) (انظر الحلقة الأولى)
كيف تطورت علاقاتنا مع المواطنين العرب
نشأنا في مدينة الديوانية الواقعة في وسط العراق، كان أبى المرحوم إلياهو رئيس عائلة (معلم) قد كرس حياته للديانة فقط وكان كبير عائلتنا أخي الأكبر المرحوم ساسون معلم وهو شخصية معروفة لدى الكثير من العراقيين عرباً ويهوداً كرجل أعمال ومزارع كبير وقد تعلمنا منه نحن أفراد عائلته الاستقامة والأخلاق الفاضلة وإكرام الضيف ومحبه الغير ونحن كنا وما زلنا نؤمن بالنظام العائلي فكبير العائلة له مكانته واحترامه لدى أفراد العائلة.
كانت علاقتنا مع بقية السكان غير اليهود ودية لا أحقاد في القلوب ولا ضغائن في النفوس، لا تفرقه في الدوائر الحكومية ولا في المدارس، حيث لا فرق بين طالب يهودي وأخر غير يهودي وقد شارك كثير من اليهود الرجال العرب في أعمالهم التجارية، كما وقد اشغل اليهود الدوائر الحكومية والشركات والبنوك والتعليم والوظائف الكبيرة منها والصغيرة، كما وقد خدم في الجيش العراقي عدد من الضباط اليهود وتخرج من الكلية العسكرية كثير من ضباط الاحتياط برتبة ملازم ثاني منهم ابن أخي المهندس نعيم شيمش وأخي المرحوم ناجي معلم وغيرهما، ولذا فقد قام اليهود بدور كبير في إنهاض العراق وتقدمه ثقافيا واقتصاديا بعد تحرره من الاستعمارين التركي والبريطاني نظرا لثقافتهم ونشاطهم في كل الميادين في الوقت الذي لم يكن بين المواطنين العرب في العراق من المثقفين إلا القليل كنتيجة لفترة الاستعمار التي مرّ بها الشعب العراقي وحرمانه من المدارس في حين كان للشباب اليهود مدارس خاصة بهم.
كنا نشارك أهالي مدينة الديوانية ويشاركوننا الأفراح والأتراح بالأعياد وبحفلات الزواج وحتى في تشييع موتاهم إلى مدينة النجف وغير ذلك من المناسبات الاجتماعية المختلفة وكانوا يستقبلوننا بكل تقدير واحترام ونستقبلهم كذلك. كنت اشعر بسرور عندما كان أخي المرحوم ساسون معلم يترأس وفدا من أبناء عائلته وبعض أصدقائه يزور وجهاء البلد في دورهم لتقديم التهاني بمناسبة العيد فيستقبلوننا بحفاوة وود حيث تقدم القهوة العربية والحلويات وكانوا هم يزوروننا بتلك المناسبات أيضا ويلاقون منا أحسن استقبال، وعند وفاة المرحوم الملك فيصل الأول أقيمت في كنيس اليهود في مدينة الديوانية حفلة تأبينية كبرى حضرها متصرف اللواء وكبار الموظفين وجمهور غفير من الأهالي ألقيت فيها الخطب التأبينية من قبل اليهود والعرب وكان من بين الخطباء فيها الدكتور نسيم عزرا نسيم الذي شغل في إسرائيل منصب معاون رئيس بلدية رمات-كان حاليا مع كاتب هذه السطور، كما وأقيمت حفلة تأبينية مماثلة بوفاة المرحوم الملك غازي الأول، كنت احد الخطباء فيها وخطب أيضا المرحوم داود سلمان خلاحجي والآنسة صبيحة ربيع.
وكان اليهودي بنظر المواطنين العرب رجل أمانة وثقة واني أتذكر جيدا كيف كان بعضهم يودع نقوده أمانة عند احد سكان المدينة المدعو الياهو جبره وذلك قبل تأسيس بنك في المدينة آنذاك بدون وصولات أو أي مستحقات، وفي اجتماع لجمعية مكافحة السل في الديوانية انتخب أخي المرحوم ساسون معلم أميناً لصندوق الجمعية وحساباتها. هكذا كانت العلاقات السائدة بيننا وبين المواطنين العرب، علاقات ودية طبية وصافية من الشوائب. ترى هل يعود يوما ذلك الصفاء والتآخي بيننا وإننا لذلك لمنتظرون. وعندما كنت أرافق أخي المرحوم ساسون معلم في بعض سفراته إلى مضايف شيوخ العشائر يأخذني العجب مما أرى من حسن الأخلاق والتقاليد العربية الأصلية الطيبة وكرم الضيافة منذ قديم الزمان، فأطباق (صواني) التمن الكبيرة ذات الرائحة الزكية التي اشتهر بها التمن المزروع في الفرات الأوسط مرصوف عليها الذبائح الأغنام الصغيرة (القوازى) والخبز الحار الذي اخرج من التنور توا تثير الشهية وتدل على الكرم والسخاء. يأكل الضيوف أولا ثم يعقبهم أفراد العشيرة علما بأن مضيف شيخ القبيلة هو دار الضيافة التي تستقبل أي فرد يلجأ إليها للأكل أو المبيت مجانا وهو النادي الذي يتسامرون فيه وهناك تروي الأخبار والقصص، وإكرام الضيف واحترامه عند العرب من أهم الواجبات الأجتماعية وقد أغلقت هذه المضايف بعد ثورة 14 تموز سنة 1958 التي قام بها المرحوم عبد الكريم قاسم بسبب مصادرة أراضيهم الزراعية بموجب قانون الإصلاح الزراعي وانقطاع مورد تمويل هذه المضايف.
بدأت العلاقات بيننا وبين المواطنين العرب تتغير تدريجيا عند ظهور بعض الأحزاب اليمينية المتطرفة في العراق والتغيير الذي طرأ أولا كان لدى قلة من المواطنين وعندما ظهرت النازية المجرمة وبثت سموم دعاياتها بعمق بواسطة أجهزة إعلامها القوية أثرت في نفوس الكثير من العراقيين تأثيرا معاديا لليهود انعكس ذلك على علاقاتنا مع الدوائر الرسمية بصورة سلبية وظهرت بوادر التفرقة بين اليهودي وغير يهودي وعندما بلغت هذه الدعاية أوجها وحصلت ثورة رشيد عالي الكيلاني ضد الانكليز سنة 1941 قتل وجرح المئات من يهود بغداد ظلما وبدون أي سبب وحصلت تلك المجزرة المعروفة quot;بالفرهودquot; بتحريض الدعاية النارية لمواطنين ضد اليهود ليس إلا - ويحضرني هنا حادث قد يكون طريفا، فقد كنت ذات يوم من أيام ثورة رشيد عالي ماشيا في الشارع الرئيسي لمدينة الديوانية فرأيت الشاب حسقيل يعقوب ماشيا يتأبط ذراعيه رجلين خوفا من هروبه يحيط به عدد من الرجال والأولاد متجهين به نحو سراي الحكومة، فسألت احد المحيطين به عما فعله هذا الشاب اليهودي ولماذا يقودونه إلى الشرطة، فإجابتي إن المذكور ضبط وهو يقطع بالمقص أسلاك التلفون الممدودة على الأرض والتي تربط بين وحدات الجيش المرابطة للدفاع عن مدينة الديوانية، فتابعت الموكب عن كثب لأرى النتيجة وعندما بلغ الموكب مركز الشرطة سأل مأمور المركز الذين أتوا به قائلاً: أين المقص الذي كان يقطع به الأسلاك التلفونية؟ أجابوه لقد ابتلعه، أما مأمور المركز فقد أمر بتوقيفه إرضاء للذين اقتادوه بسبب غليان العواطف آنذاك، وبعد انصرافهم أطلق سراحه. وفي حديث لي مع ضابط كردي في الجيش العراقي حول ما لحق بنا من الظلم والخسائر في النفوس أثناء تلك الثورة، قال مواسياً، إن شر البلية لم يقتصر عليكم وحدكم فقد شمل علماء وأكابر وضباط كثيرين، فأجبته من قتل أو سجن من غير اليهود كان معارضا لرجال الحكم، أما من قتل منا فقد كان ضحية للنازية المجرمة.
بعد ثورة رشيد عالي الكيلاني كانت الحالة بالنسبة لليهود بين مد وجزر تارة حسنة وأخرى سيئة حسب أهواء ومتطلبات الطاقم الحاكم، فإذا احتاج إلى كبش فداء أو سلم للصعود أو استعراض العضلات، كان اليهود طوع أمرهم يتحملون الظلم والجور بصبر، وعند قيام دولة إسرائيل (1948) وهجرة يهود العراق الجماعية (1950) زودوا اليهود الذين أبوا مفارقة مسقط رأسهم بالبطاقة الصفراء المعروفة بهوية عدم إسقاط الجنسية العراقية، وبدأت حملة ظالمة ضد يهود العراق الباقيين بعد انقضاء السنة المخصصة لإسقاط الجنسية العراقية على اليهود الراغبين في الهجرة، واشتدت الحملة بعد اكتشاف منظمة الصهيونية السرية (التنوعة) في بغداد والقبض على معظم أفرادها، وكانت محاكمتهم مثيرة للعواطف ضد اليهود وزاد الطين بله إعدام التاجر الكبير المرحوم شفيق عدس في البصرة (1948) بعد محاكمة عسكرية بتهمة إرسال أسلحة لإسرائيل، كان لهذين الحادثين وقع سئ على نفوسنا سيما وان رسائل الإعلام العراقية استغلتهما لبث الحقد والكراهية ضد اليهود استغلالا واسعا. تلا ذلك حملة قوية من قبل الحكومة استهدفت تقليص أعمال اليهود حين فصل جميع الموظفين من وظائفهم في الدوائر الرسمية والبنوك وسحب إجازات المستوردين ومنع قبول الطلاب اليهود في الجامعات وألغيت اعتمادات التجار في البنوك وغير ذلك من الإجراءات التعسفية المختلفة.
في يوم 14 تموز سنة 1958، قامت ثورة المرحوم عبد الكريم قاسم وزملائه من الضباط تلك الثورة التي أطاحت بالنظام الملكي في العراق، وفي اليوم الأول من قيامها وفي قمة هيجان العواطف وتحريض الشيوعيين، قتل جميع أفراد العائلة المالكة بما فيهم المرحوم الملك فبصل الثاني الشاب ومربيته البريطانية الجنسية، وقد قال لي ضابط كبير في الحرس الملكي إن العراق خسر ملكا ذو شخصية محبوبة وأخلاق فاضلة وذكاء واسع، كان من الممكن للعراق الاستفادة منه كثيرا في تكوين مستقبله، أما الأمير عبد الإله الذي كان وصيا على العرش قبل أن يتوّج المرحوم فيصل الثاني ملكا، فقد ربطت جثته بسيارة نقل وسحلت في شوارع بغداد الرئيسية وسحلت كذلك جثة - السياسي المخضرم نوري السعيد الذي ترأس الوزارة العراقية لفترات كثيرة ويعتبر من أشهر ساسة العراق وأكثرهم حنكة ودهاء، سحلت حثته في شارع الرشيد والشوارع الرئيسية الأخرى، وكان قد أطلق النار على نفسه عندما عثروا عليه في مجلة البتاوين في بغداد متنكرا بزي امرأة ومحاولا الهرب إلى خارج العراق، وأثناء سحل جثته كان هذا الشخص أو ذاك يقطع قطعة من الجثة إلى أن بقى منها فخد واحد فقط أخذه الساحبون للأشلاء جثته إلى صوب الكرخ وجمعوا حطبا لشيه وحرقه أمام قصره، وعندما حلّ الظلام وأعلن نظام منع التجول انصرفوا عنه. وكان لمدينه الديوانية نصيب أيضا من حوادث السحل حيث قتل عقيد في الجيش العراقي داخل ثكنات الجيش على يد الجنود ثم سحلت جثته بالحبال من قبل ثلة من الجنود من الفرقة الأولى إلى الجانب الثاني من المدينة وعلقت على شجرة أمام سراي الحكومة.
وعندما نعود بالذاكرة إلى ثورة عبد الكريم قاسم لا يغيب عن البال محكمة المهداوي، فقد شكل الانقلابيون محكمة عسكرية سميت بمحكمة الشعب برئاسة فاضل عباس المهداوي، وكان المقدم ماجد أمين مدعيا عاما فيها، لقد كانت تلك المحكمة منبرا عاما للهتافات والشعارات الشيوعية البراقة وجد فيها الشيوعيين متنفسا لشعاراتهم ومشاعرهم المكبوتة خلا الحكم الملكي وكل بضعة دقائق تمر اثنا المحاكمة كنا نسمع الشعارات الهاتفة بسقوط (الاستعمار والرجعية والامبريالية) وغيرها يسبقها هتاف quot;يعيشquot; أو quot;يسقطquot;، حسب الحاجة ثم يليه تصفيق يصم الآذان بالإضافة إلى خطب المهداوي وماجد أمين التي لا تخلو من السب والاهانات للذين جاءت بهم الأقدار إلى قفص الاتهام أمام هذه المحكمة، ووقف في قفص الاتهام جميع رؤساء وزارات ووزراء وقادة الحكومات السابقة تقريبا وهنالك وسط جموع المشاهدين الغفيرة تلقوا من الشتائم والاهانات الشيء الكثير فاعدم من اعدم وسجن من سجن.
بعد أن هدأ الغليان الناتج عن ثورة 14 تموز سنة 1958 أعاد المرحوم عبد الكريم قاسم لليهود حريتهم واطمئنانهم فكان ينادي دائما في خطبه بالمساواة بين المواطنين بغض النظر عن اختلاف الدين أو اللغة أو القومية وهذا ما حصل في عهد حكمه قولا وعملا، فقد تمتع الشعب العراقي بكافه طبقاته بالحرية التامة مما جعل المرحوم عبد الكريم قاسم اقرب زعيم إلى قلوب الشعب العراقي بكافة طبقاته ما عدا الفئة القليلة المعارضة الطامعة في تسلم الحكم، وأعاد لليهود معظم حقوقهم وقبل أبنائهم في الكليات، واستمرت هذه الفترة من الحرية حتى استيلاء عبد السلام عارف على الحكم بانقلاب عسكري دموي أطاح بحكم المرحوم عبد الكريم قاسم، وأصبحت الانقلابات مألوفة لدى العراقيين لكثرتها، فكثيرا ما كنا نصبح على بيان رقم 1 لقائد إحدى الثورات معلنا الثورة باسم الشعب، بينما أفراد الشعب في دورهم نائمين ولا يعلمون ما يجري حولهم، وفي هذه الثورة المضادة لثورة 14 تموز قتل عبد الكريم قاسم زعيم الثورة وكثير من أتباعه في الحكم ورئيس محكمة الشعب فاضل المهداوي والمدعي العام ماجد أمين وعرضت جثة الزعيم في التلفزيون العراقي للمشاهدين وبصق أحد جنود الجيش على وجهه وهو جثة هامدة، كذلك عرضت جثة رئيس محكمة الشعب والمدعي العام فيها ولم يراعوا حرمة الموتى.
يتبع ndash; ذكريات أهرون موريه - رقم 2
التعليقات