ذكريات عراقية، سلسلة جديدة يقدمها أ.د. شموئيل (سامي) موريه (2)

عندما اتأمل في تاريخ حياة كبار المثقفين العراقيين من أدباء وشعراء وعلماء وصحافيين من الذين قرأت عنهم أو التقيت بهم في المهاجر الأوربية والأمريكية أو راسلتهم بالبريد الألكتروني الذي هدم سدود الرقابة الحكومية بين الشعوب، يأخذني الأسى لما آل إليه مصير الكثير منهم من مطاردة وسجون وتشريد، مما أدى الى هروب الأدمغة والكفاآت والمواهب العظيمة لكثير من العراقيين، فأتذكر البيت التالي الذي يلخص سياسة الحكام العراقيين خاصة نحو الشعب العراقي الكريم:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
ثم أتذكر أبيات بدر شاكر السياب الخالدة في مواطنة مظلومة تلخص محنة العراق الذي لم ينتفع الشعب من ثرواته الطبيعية:
ويح العراق أكان عدلا فيه أنك تدفعين
سهاد مقلتك الضريرة
لملء يديك زيتا من منابعه الغزيرة
كي يثمر المصباح بالنور الذي لا تبصرين؟

وعند تدويني لذكرياتي وقراءتي لمذكرات الأدباء العراقيين، ادركت ان هذه الأبيات تلخص موقف الحكومات العراقية خاصة نحو المواهب الفذة الرائعة التي يتمتع بها الكثير من المثقفين العراقيين وافراد من عامة الشعب. ويمكن ان نسمي هذه الخصلة التي يتميز بها الحكام العراقيون بخصلة quot;التدمير الذاتيquot;، من جراء الاستبداد والظلم والابتزاز، دون التروي والتفكير في العواقب. فهم كما قيل، quot;قوم إذا أرادوا الثمرة قطلعوا الشجرةquot;. ويرون في العنف وقسر الشعب على الاستجابة لأهوئهم، الطريق الوحيد نحو تنفيذ مخططاتهم العشوائية الجهنمية، وهكذا افلحوا في تمزيق وحدة الشعب العراقي وتدميره، وشردوه في جميع اقطار المعمورة.
عند طـُردنا من العراق لم يسمحوا لنا بإخراج بعض مدخراتنا وبيع املاكنا، ووصلنا إلى اسرائيل خاوي الوفاض، والقليل منا من كان يملك الخمسين دينارا، وهي اقصى ما سمحت به الحكومة العراقية الناكرة للجميل، بإخراجه معنا من العراق، فاضطر معظم الشباب للعمل لإعالة والديهم والعمل في اعمال وضيعة، بدل الدراسة في مدارس وجامعات البلاد والخارج، كما منعنا من اصطحاب الكتب والوثائق وآلات المهن المختلفة التي حذقها يهود العراق كالآلات الموسيقية، لذلك أخذ كاتب هذه السطور على عاتقه تشجيع أصدقائه العراقيين من المثقفين والأدباء على تدوين ذكرياتهم وتجاربهم في حياتهم العملية في العراق بصورة موضوعية، للحقيقة والتاريخ ولنشرها في سلسلة منشورات رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق في اسرائيل التي أسسناها عام 1980، أما الذكريات التي تضم عددا قليلا من الصفحات فإني أحاول اليوم نشرها في جريدة quot;إيلافquot; الالكترونية الغراء، الحصن الحصين لحرية الفكر والنشر باللغة العربية، حفاظا عليها من الضياع ولاطلاع القراء الكرام على احداث أيام زمان بحلوها ومرها وخاصة ذكريات التهجير الثاني تحث حكم البعث الغاشم، وقد شجعتني استجابة الاستاذ الصحفي مراد العماري لاقتراحي في كتابة ذكرياته وموافقته على نشرها في quot;إيلافquot; وعلى التفتيش عن ذكريات لأصدقاء آخرين ونشرها في هذه السلسلة الجديدة من quot;ذكريات عراقيةquot; والتي اعتبرها الجزء الاول من سلسلة المقالات التي اعتزمت على نشرها. أما اليوم فاني أنشر السلسلة الثانية بقلم الاستاذ المرحوم أهارون موريه (معلم) من إخوة رجل الأعمال والشاعر الشعبي من الديوانية الفقيد عزت ساسون معلم مؤلف كتاب quot;على ضفاف الفرات، ذكريات أيام مضت وانقضتquot;، مراجعة واعداد الاستاذ نير شوحيط العماري، (شفا عمرو، دار المشرق للترجمة والطباعة والنشر، 1980)، وذكرياته وحكاياته التي نشرها في كتابه quot;بعيد وقريبquot;، (شفا عمرو، دار المشرق للترجمة والطباعة والنشر، 1983). وذكريات الاستاذ أهرون موريه-معلم هذه، تعد تتميما للأحداث التي رواها أخوه السيد عزت ساسون معلم. ومن بين الحكايات التي رواها، هي ذكرياته عن نزوله ضيفا علينا في البتاويين كأحد اقرباء الوالد الأعزاء. وهي ذكريات جديرة بإعادة طبعها مرة آخرى ليقف القراء الكرام على الاخاء بين مختلف الطوائف العراقية في الفرات الأوسط quot;من اليهود وبين بدوه وحضره من العرب، في فترة نافت على القرن تحت حكم متتال ndash; عثماني، بريطاني، ثم عراقي عربيquot;. والسيد عزت ساسون معلم يمت بصلة القرابة الى عائلة والدي، ولقب معلم كان يمنح لرجال الدين اليهود خاصة، لانهم كان يعلمون الشريعة اليهودية، وقليلا ما كانت العائلات المسلمة تتخذ لقب quot;معلمquot;، بل كانت تتخذ لقب quot;مدرسquot; لتمييزها عن العائلات اليهودية. وقد ربطت بيني وبين السيد عزت معلم، بعد ابتزاز حكومة البعث بصورة دنيئة معمل الطابوق الفني الذي أنشأه مع عائلته في الديوانية وهروبه الى إسرائيل. وقد جمعتنا رغم الفارق في عمرينا، رابطة صداقة متينة الى آخر يوم من حياته، ومدحني بقصيدة نظمها بلهجة الفرات الأوسط لا أزال اعتز بها.

المرحوم أهرون موريه ndash; معلم مع عقيلته السيدة سيلفيا موريه

وعندما كنت محاضرا للأدب العربي في وظيفة جزئية في جامعة بار-إيلان في رمات كان، الى جانب عملي الثابت في الجامعة العبرية، كانت السيدة سيلفيا موريه زوجة السيد أهارون موريه من بين طلابي، فطلبت منها أن تحثّ زوجها على تدوين ذكرياته عن الأيام الأخيرة في العراق تحت حكم البعث، وخاصة بعد أن قرأت كتابي أخيه السيد عزت ساسون معلم، فاستجاب مشكورا. ومضت السنون ثم سمعت عن وفاته رمات كان، عثرت على ذكرياته بين أوراقي، وطلبت الاذن من ارملته السيدة سيلفيا السماح لي بنشرها لاهميتها التاريخة، فسمحت لي مشكورة.
واليوم بعد المحن التى مرّ بها العراق الجريح، ما احرى بالحكومات العراقية والعربية اليوم بالإتعاظ بهذه الذكريات وأخذ العبرة منها في معاملة الأقليات الدينية والطائفية معاملة تليق بابناء الوطن الواحد الذين بنوا حضارته ومجده قبل الفتح الإسلامي وساهموا مساهمة كبيرة في بنائه باخلاص. وفي هذه المرحلة الحرجة من حياة الشعوب العربية، مرحلة يقظة الشباب العربي الناهض وانتفاضتهم ضد طغيان حكامهم الذين أستأثاروا بثروات البلدان العربية وألهوا شعوبهم ببعبع خطر اسرائيل الوهمي للبقاء في الحكم أطول مدة ممكنة ولتوريثه لأبنائهم الذين تربوا على فكرة ان الشعب هو بقرة حلوب يتمتعون بخيراتها دون الاهتمام الحقيقي بحاجات شعوبهم في العيش بكرامة وتحسين اوضاعهم المادية والاجتماعية والثقافية وحرية العبادة والفكر.
فإلى القراء الكرام أهدي هذه السلسلة الجديدة من ذكريات أحد ضحايا حكم البعث الغاشم، الذي دمر العراق تدميرا وأوقع بين طوائفه واديانه، انشرها للعبرة والتاريخ.